(إنه من الغرابة بمكان أن الأمة العسكرية الأشد بأسا «أمريكا» حاليا، سوف ينال منها الاقتصاد. وفي العادة يهرب الناس زمن الأزمات إلى الدولار كمنطقة أمان، ولكن الذي يحدث هو العكس فلم يتحسن الدولار منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم، حيث كان يعادل ما يقرب من 5 ماركات ألمانية، واليوم بعد ولادة الأورو انقلبت الصورة، فأصبح الأورو أقوى من الدولار؟ واليوم تخزن دول مهمة مستودعاتها بالأورو، مثل روسيا والصين وتايوان وكندا. وتتوالى شهادات خبراء الاقتصاد عن مستقبل مظلم للدولار الأمريكي، فعندما يفكر Jim O’Neill، الخبير الاقتصادي في بنك «غولدمان ساكس الاستثماري Goldman Sachs»، حول مستقبل الدولار، لا يخرج إلا بالتشاؤم «سوف يفقد الدولار المزيد من قيمته أمام الأورو، وهكذا ارتفع سعر صرف الأورو مقابل الدولار». وذهب إلى التحليل نفسه «ميشيل كلاوتر Micheal Klawitter»، خبير العملات في بنك «West LB» بلندن، فكان يتوقع صعودا في الأورو مقابل حضيضا في الدولار، وأن يصل الأورو إلى 1.4 دولار موضوع مفروغ منه، وقد وصله، ثم تراجع بفعل أزمة أوكرانيا، ولكن هذا لن يدوم. ويتعاظم الشك في البورصات في أداء أمريكا القوة الأعظم، ليس في قوتها العسكرية، لكن الاقتصادية. وينمو الخوف أن الاقتصاد الأمريكي ليس ذلك الصلب كما كان متوقعا، وأن النمو الذي عاشه البلد سابقا، لربما يفاجأ بانهيار حاد. وحسب باول كينيدي، المؤرخ الأمريكي، فإن أفولا لأمريكا قادم لا محالة، فالإنتاج الأمريكي العالمي كان يقترب من حافة 38 في المائة، وسيكون هذا مع عام 2050 قريبا من 18 في المائة، وطبعا لن تصبح أمريكا مثل سوريا وجمهورية الكونغو الديموقراطية، ولكن قدر الانحدار لا مفر منه. وما زلت أتذكر ما نقله «أولريش شيفر Olrich Schafer»، في مجلة «دير شبيغل» الألمانية، عن «فيم دويزنبيرغ Wim Duisenberg»، رئيس البنك المركزي الأوروبي، قوله «إن الرفاهية في أمريكا في قسمها الأعظم هي محصلة نفخ اقتصادي، وإنها تتغذى على قصور مضاعف Double deficit». هذا الشيء أنا شخصيا دفعت ثمنه عام 2008م، مع فقاعة الرهن العقاري الأمريكي، فخسرت عملي، ولكن ربي عوضني بما هو خير وأبقى، وكنت يومها قد أسندت ظهري إلى الكتابة، فخر السقف علي من فوق رأسي، وعرفت يومها أن شاطئ السلامة عندي، هو مهنتي الطبية، وكان حسنا بعد أن استرحت من قاعات العمليات سنة ويزيد..
وعندما يشرح صاحبنا من البنك الأوروبي هذا القصور المزدوج، يقول لقد كانت المؤشرات تتوهج احمرارا في هبوط الميزانية الأمريكية، وتوازن التحمل. ويومها قام بوش الابن فهجم على الميزانية المعافاة التي خلفها له كلينتون، خلال سنتين، إلى قصور هائل، فمن جهة مد يده إلى أموال المودعين ليستدين 380 مليار دولار، من أجل تمويل الحرب على العراق، وهي أمور جديرة أن تنشط الذاكرة بها لنعرف باب هلاك الأمم، وكان يعني يومها سلبا 4 في المائة من الإنتاج الوطني. ومن الخارج ارتفعت كمية الواردات، ما اضطر أمريكا إلى ضخها 500 مليار أورو من أموال خارجية، كي تغطي حمى الاستهلاك الأمريكي.
إن هذا الشرخ في (توازن التحمل) لم تطق عليه نمور آسيا في الشرق الأقصى، وفي الوقت الذي بلغ المخطط ذروته، وفقد الناس ثقتهم بالأداء الاقتصادي، انهارت أندونيسيا وتايلاند بين ليلة وضحاها، وهو ما قاله رئيس قسم الاقتصاد الوطني في البنك الألماني، «نوربرت فالتر Norbert Walter»: «إننا قد نكون شهود انفجار فقاعة الدولار، بعد فقاعة الأسهم».
واليوم أعظم المدخرات في الدولار هي في الشرق الأقصى (اليابان 462.3 مليار دولار، الصين 270.6، تايوان 162.3، كوريا الجنوبية 121، وهونغ كونغ 111.9، مقابل ألمانيا 56.4، وأمريكا 80.4 مليار دولار)، وهذه الأرقام قديمة وقد تضاعفت، ولكنها مفيدة للقارئ كي يبصر بانوراما التطور. وهكذا فإن الدول الآسيوية بيدها نصف الأموال العالمية، وتشجع رخاء شريكها أمريكا، ولكن إلى متى؟ وهذه الدول تسعى إلى رفع احتياطيها من الأورو، فتايوان مثلا رفعت احتياطيها من الأورو من 20 إلى 35 في المائة، وسنغافورا إلى 30 في المائة. وكانت نسبة المدخرات عام 1999 في البنوك العالمية بين الدولار والأورو 5.8 مرات، وبعد ثلاث سنوات نزلت إلى 4.6، والمخطط يتزحزح تدريجيا باتجاه الأورو.
هذه الأرقام تقول إن أمريكا قابلة للإصابة، وإن رفاهيتها تقوم على أن العالم يشتري الدولار، لأن البترول يباع بالدولار. وبهذه الكيفية فإن الثقوب في التوازن الاقتصادي الأمريكي تسد، طالما كان البترول يباع بالدولار وبالدولار فقط، مما يبقي الطلب على العملة الأمريكية في مستواه الحالي. ومن الغريب أن صدام المصدوم يومها فطن إلى هذا التحول، وهي رمية من غير رام، ولكنها كانت صائبة عندما اعتمد بيع البترول بالأورو بدل الدولار.
وهذا التوجه لو نما بحيث إن بيع البترول انقلب إلى الأورو، فإنه سيقود إلى كارثة على أمريكا. ويذهب المؤرخ الأمريكي وليام كلارك، إلى أن غزو أمريكا للعراق يومها لم يكن من أجل أسلحة الدمار الشامل، بل من أجل احتكار بيع النفط بالدولار فقط، وقطع الطريق على فكرة صدام أن تتطور من شبح إلى حقيقة دولية. وهي نظرية تم تناقلها بالإنترنت تلك الأيام.
وقد يأتي الوقت الذي يخاف الاقتصاديون ويرتعب المودعون بأن الأخطار كبيرة، فيسحبوا أموالهم بالدولار، عندها ستحدث الصدمة الكبرى، وهو ما حذر منه المؤرخ الاقتصادي هارولد جيمس، من جامعة برينستون. كما جاء تحذير يومها من مجلة «النيوز ويك» لقراءها الأمريكيين مع حرب صدام، بقولها من التطورات الدرامية: «انسوا الحرب العراقية. انسوا النزاع الأطلنطي، إن أم المعارك تتربص بكم في جبهة أخرى».
إن التاريخ يروي عن دورة انهيار الحضارات أنها تتحول من فكرة إلى ثورة، ثم تتجمد في صورة دولة، ثم تكبر إلى قوة إمبراطورية إمبريالية، ثم يجف النسغ في شجرتها كما يقول شبينغلر، ثم تتخشب فتهوي فتصبح غثاء أحوى، سنقرئك فلا تنسى.
هذا ما حصل لروما، ثم بريطانيا، واليوم أمريكا. ومن يغفل عن سنن الله فإن سنن الله لا تغفل عنه. وفي الإنجيل قبل السقوط يأتي الكبرياء.
خالص جلبي