أمريكا ترضخ للشروط الروسية وتتراجع عن موقفها من رحيل الأسد
فجر جون كيري وزير الخارجية الأمريكي قنبلة من العيار الثقيل عندما أعلن، وللمرة الأولى في مؤتمر صحافي عقده في لندن مع نظيره الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد ترحيب الرئيس باراك أوباما بإجراء مباحثات عسكرية مع روسيا بشأن سورية لقتال “الدولة الاسلامية – داعش”، وقال “تركيزنا ما زال على هذه “الدولة” (داعش) وعلى التسوية السياسية التي نعتقد أنه لا يمكن تحقيقها مع وجود الأسد لفترة طويلة».
هذا الكلام “الدبلوماسي” يعني أن واشنطن لم تعد تنظر إلى الرئيس الأسد كرئيس “غير شرعي” وتشترط رحيله كليا في أي حل سياسي، بما في ذلك “المرحلة الانتقالية” المقترحة، في مؤتمر جنيف بنسختيه الأولى والثانية.
القبول بإجراء مفاوضات عسكرية مع روسيا حول النزاع في سورية هو رضوخ للأمر الواقع الذي فرضته روسيا من خلال إرسال معدات عسكرية حديثة وآلاف الخبراء العسكريين إلى سورية، وإصرارها على أن الرئيس الأسد خط أحمر ولا يمكن أن تتخلى عنه، ومستعدة أن تقاتل لبقائه على رأس السلطة في دمشق.
كيف توصلت الولايات المتحدة الأمريكية إلى هذه النتيجة التي حتمت تراجعها عن كل أو معظم مواقفها السابقة ما يقرب من 180 درجة؟ هناك عدة أسباب نلخصها في النقاط التالية:
أولا: بعد أكثر من ستة آلاف غارة جوية على مواقع “الدولة الاسلامية” دون إضعاف حقيقي لها، أي للدولة، واستيلائها على الرمادي وتدمر، أدركت واشنطن أنها لن تكسب هذه الحرب في غضون أشهر أو سنوات.
ثانيا: رفض حلفاء واشنطن العرب، وبالتحديد المثلث السعودي التركي القطري إرسال قوات برية لحرب “الدولة الاسلامية”، وانهيار القوات العراقية أمامها في الرمادي والموصل، وغرق السعودية في مستنقع اليمن الدموي، وتركيا أردوغان في حرب استنزاف ضد حزب العمال الكردستاني، والتوصل إلى نتيجة أن الجيش العراقي لا يملك إرادة القتال، ولا فائدة ترجى منه في ميادين الحرب رغم إنفاق 27 مليار دولار على تسليحه وتدريبه.
ثالثا: فشل كل خطط تدريب معارضة سورية معتدلة، وهروب معظم من جرى تدريبهم في تركيا والأردن قبل إطلاق رصاصة واحدة ضد “الدولة الاسلامية».
رابعا: إعلان موسكو عن عزمها التجاوب مع أي طلب رسمي من السلطات السورية لإرسال قوات إلى دمشق، مما يعني أنها أصبحت ملتزمة التزاما كاملا بالدفاع عن الرئيس الأسد ونظامه حتى لو تحول الأمر إلى حرب عالمية ثالثة.
خامسا: بعد توقيع واشنطن اتفاقا نوويا مع إيران، وإقرار الكونغرس له، وجدت الطريق مهيأ أمامها لبدء الانسحاب التدريجي من منطقة الشرق الأوسط باتجاه جنوب شرق آسيا، خاصة بعد استغنائها عن نفط الشرق الأوسط كليا.
سادسا: انعكاس الأزمة السورية على أوروبا من خلال تدفق مئات الآلاف من اللاجئين السوريين الأمر الذي يشكل أزمة ديمغرافية، وتقسيم أوروبا إلى معسكريين، الأول لأوروبا القديمة (ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، بلجيكا)، والثاني، أوروبا الجديدة (بولندا، المجر، رومانيا، بلغاريا)، الأمر الذي يهدد بانهيار الاتحاد الأوروبي.
على ضوء كل ما تقدم يمكن القول أن الادارة الأمريكية سلمت الملف السوري برمته إلى روسيا، وبدأت تنفض يدها تدريجيا من كل التزاماتها تجاه المعارضة السورية والدول العربية الداعمة لها، مثل السعودية وتركيا وقطر.
لا شيء يأتي صدفة في أوروبا وأمريكا، والغرب عموما، فمنذ اللحظة الأولى التي خرج فيها وزير خارجية إسبانيا، وأعلن عن ضرورة التفاوض مع الرئيس بشار الأسد للتوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية، وانضمامه إلى تحالف لمحاربة “الدولة الاسلامية”، وتكرار المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ووزير الخارجية البريطانية فيليب هاموند للشيء نفسه بات واضحا أن كل هذه التصريحات تمهد لهذا التراجع الأمريكي في الملف السوري.
المفاوضات العكسرية الوشيكة بين وزيري الدفاع الروسي والأمريكي ستؤسس لتحالف روسي أمريكي عسكري يعطي أولوية لمحاربة “الدولة الاسلامية”، وربما هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي تتفق القوتان العظميان ضد عدو واحد مشترك، وتخوضان الحرب سويا ضده.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نجح في فرض وجهة نظره على الأمريكيين والأوروبيين معا في تأسيس هذا التحالف العسكري الطارئ، وضم الرئيس السوري بشار الأسد، وربما إيران أيضا له.
هل سينجح هذا التحالف بين القوتين العظميين في القضاء على “الدولة الاسلامية” واقتلاع جذورها من المدن التي استولت عليها في العراق وسورية؟
من الصعب إعطاء إجابة حاسمة، لأن هذه الدولة قوية، ومكتفية ماليا وتسليحيا، وتقاتل على أرضها أي أنها ليست ضيفة على أحد، وتملك سلاحا خطيرا جدا لا تملكه كل القوى الأخرى المناهضة لها، وهو “العمليات الانغماسية” أي الانتحارية، مثلما تملك غابات من الاسمنت في المدن التي تسيطر عليها، الأمر الذي يعني أن هزيمتها لن تكون سهلة، والحرب ضدها قد تأخذ وقتا طويلا جدا، علاوة على كونها باهظة التكاليف، ماديا وبشريا.
الأمر المؤكد أن المثلت السعودي التركي القطري، والسيد عادل الجبير وزير الخارجية السعودي المتحدث باسمه سيصاب بالصدمة بعد هذا الانقلاب في الموقف الأمريكي، ولا نعرف ما إذا كان السيد الجبير سيكرر في مؤتمراته الصحافية المقبلة مقولته الأثيرة “بأن الأسد سيرحل سواء بالقوة أو من خلال الحل السياسي».
نحن في انتظار المؤتمر الصحافي المقبل للسيد الجبير، على أمل أن نجد إجابة شافية لهذا السؤال، ولا نعتقد أن انتظارنا سيطول.