أمريكا بدون أعياد ميلاد
فدوى مساط
جاء شقيقي هشام لزيارتي هذا الصباح. رن جرس الباب ثم تراجع إلى الخلف. فتحتُ باب البيت وعدتُ إلى الداخل. دخل هشام وذهب مباشرة إلى الحمام، غسل يديه بالماء والصابون لأكثر من دقيقة، سكب المعقم على كفيه وفركهما جيدا. خلع حذاءه ووضعه في كيس قرب الباب ثم دخل غرفة المعيشة حيث جلس بعيدا عني بمسافة، قبل أن يسألني عن أحوالي وأحوال أسرتي..
لم أستطع ضم شقيقي والسلام عليه بحرارة كما هي عادتي دائما، لم أستطع الترحيب به على طريقتنا المغربية الحميمة، ولم أجرؤ حتى على الجلوس قربه، وذلك اتباعا للإرشادات التي أصدرتها السلطات الطبية هنا في الولايات المتحدة لمنع انتشار فيروس كورونا.
لست الوحيدة التي تتبع هذه الإرشادات، فوسائل الإعلام الأمريكية تنشر يوميا آلاف القصص لعائلات تحكي بألم ومرارة كيف غيـر هذا الفيروس عاداتهم اليومية وأثر على علاقاتهم الاجتماعية، حتى الحميمية منها، بشكل ستصعب إزالته في ما بعد.
على تطبيق «تيك توك» كان هناك فيديو لأب أمريكي يدعى جون، وثق بالفيديو يوميا وطوال أسبوعين كيف كان يترك صحون الأكل لابنته البالغة ستة عشر عاما أمام باب غرفتها، قبل أن يبتعد بمسافة كافية ويقف متفرجا عليها وهي تلتهم شرائح الجبن المشوي، أو قطع البطاطا المقلية، قبل أن تنهي وجبتها بقطعة من الكيك وحبة دواء ضخمة بسبب إصابتها بفيروس كورونا، وخضوعها للحجر الصحي داخل غرفتها لمدة أسبوعين.
كان جون يعبر لابنته عن محبته وشوقه لأنه يضمها بين ذراعيه ويقبل شعرها، أو أن يلعب معها لعبة «السلام بالأقدام» وهي دارجة ومنتشرة على تطبيق «تيك توك»، لكنه كان يشرح لها في نهاية كل فيديو كيف أنه لا يستطيع القيام بذلك حماية لزوجته ووالديه من احتمال نقل العدوى لهم..
حتى بارون ترامب، أصغر أبناء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، احتفل هذا الشهر بعيد ميلاده الرابع عشر بشكل كئيب جدا في البيت الأبيض، لم يحضر «الاحتفال» سوى بعض أفراد أسرته الصغيرة، وغاب صخب وبريق احتفالات السنوات الماضية، خوفا عليه من الإصابة بفيروس كورونا..
الاحتفال بأعياد الميلاد مستمر في أمريكا، لكنه تغير كثيرا عما كنا نشاهده ونعيشه من قبل. الاحتفال الآن صار عن طريق وقوف بعض أفراد الأسرة وقليل من الأصدقاء داخل سياراتهم قرب منزل الشخص المحتفى به وترديد أغنية Happy Birthday ثم التلويح باليد من بعيد قبل العودة إلى بيوتهم من جديد، دون تبادل للأحضان ودون تناول قطع الكيك ودون تسليم الهدايا!
الخوف من الإصابة بفيروس كورونا أثر أيضا على كيفية وداع الأمريكيين لأحبائهم. فقد اختفت مشاهد الجنائز الأنيقة والمهيبة تماما وتحولت إلى مجرد مراسم دفن «سرية» صامتة، يحضرها عدد قليل جدا من الأقارب وقس من الكنيسة يقف بعيدا من التابوت.
حتى طريقة استقبال الموت تغيرت. فقد نشر موقع «نيويورك بوست» قصة حزينة لسيدة في منتصف الأربعين تدعى «ساندي روتر» من ولاية واشنطن شفيت قبل فترة من السرطان، لكنها أصيبت بفيروس كورونا وتدهورت صحتها بسرعة شديدة.
عندما شعرت «ساندي» بأن ساعتها قد دقت وأنها صارت جاهزة لمغادرة هذا العالم، طلبت من طبيبها المعالج أن يحقق أمنيتها الأخيرة وهي عناق أطفالها الستة وتقبيل جباههم للمرة الأخيرة، لكن الطبيب اعتذر منها قائلا إنه يستحيل تلبية طلبها بسبب الخوف من إصابة أطفالها بالفيروس اللعين إن زاروها بالمستشفى، لكنه سلمها هاتف «توكي وولكي» بعدما اتصل بأطفالها وقامت بتوديعهم بصعوبة وبطريقة تراجيدية، قبل أن تسلم الروح!