شوف تشوف

الرأي

أمراض الديموقراطية وعلل الانتخابات

الديموقراطية كائن متطور ويمكن أن يصل إلى أرقى أنواع المجتمعات كما هو الحال في كندا والنرويج والسويد، حيث يعيش الحاكم بشرا ممن خلق، وليس إلها لا يسأل عما يفعل؟ وهذا الكائن الذي صنعه البشر ودعا له الأنبياء والمرسلين يختصر بثلاث جمل: حكم الأكثرية، وضمان حقوق الأقلية، وتمثيل صحيح لآليات الانتخاب. وهذا يعني بكلمة واحدة مجتمع العدل، الذي جاء به سيد المرسلين رحمة للعالمين. ورسالة الأنبياء بدورها تختصر بثلاثة أهداف: تركيب البوصلة الأخلاقية عند الفرد، وبناء مجتمع العدل الذي تسعى إليه الديموقراطيات عبر التاريخ كما وصفناها، والثالث إرساء الأخوة والسلام بين الأنام.
ولكن مع هذا فلو تم تطبيق هذا المعيار في بلد نفطي مثلا؛ لقفز في الغالب إلى دفة الحكم أكثر القوم تشددا ورعونة، وفي يوم تم إعدام أعظم دماغ في تاريخ الإنسان على يد الأغلبية من أثينا، باسم الديموقراطية، وسيفها البتار، ومنه كان القذافي سيء الذكر في ليبيا يستهزئ بها وكان يردد الديموكراسية: دوموا على الكراسي.
ولذا فالديموقراطية ليست صناديق انتخاب؛ بل وعي الناس، وفي المغرب مثلا يعرف الناس تماما وجوه البرلمانيين أيام الانتخابات، وأنا عاصرت فترة سيئة منها حين امتلأت الأرض بأوراق الدعايات، ويومها تلوثت سيارتي حتى عجزت عن تنظيفها، والكل يعرف أن تجارة الأصوات تحمى وتسخن في موسم الانتخابات، فيباع الصوت بدراهم معدودة وكانوا فيه من الراغبين، ولكن في النهاية تبقى الشوارع وسخة و(القواديس) لم تبن، والطرقات مليئة بالحفر والنقر، كما هوعندي في مدينة الجديدة. بل إن بعض المناطق مثل دوار الطاجين والغنادرية والغربة والعربية في بني فرسان تذكر بقصة البؤساء لفيكتور هوجو، وتعود الحياة لما كانت عليه بالكسل والخمول وانهدام البنية التحتية بدون أمل في الإصلاح عند مواطن اعتاد على هذه الكذبة الكبرى المكررة.
المهم، هذه المقدمة خطرت في بالي وأنا أكتب عن لحظات الموت لسقراط وكيف تم إعدامه على يد الغوغاء باسم الديموقراطية.
كان سقراط فلتة عقلية، وبالتعبير الطبي (طفرة). مع هذا فقد حكمت أثينا الديموقراطية بإعدام سقراط عام 399 ق. م والسؤال ما هو هذا الجرم الكبير الذي حكم على العقل الكبير أن ينطفئ في أثينا؟
من الضروري الإحاطة بظروف إعدام هذا الرجل، فقد عاشت أثينا القديمة فترة من الزمن تنعم بنوع من الحكم الديموقراطي السيادة فيه لعامة أبنائها، ولكن ما كادت المدينة العريقة تنهزم في حربها مع إسبرطة حتى انتكست فيها الديموقراطية، فقد أعاد الإسبرطيون فلول الأرستقراطية الأثينية إلى الحكم فنكلوا بالديموقراطيين، وحكموا على الكثير منهم بالإعدام دون مقاضاة أو محاكمة.
كان عصراً أسود لف أثينا بظلامه، ولكن الخلاص كان في الطريق فقد عاد (تراسبيولوس) بعدد قليل من أتباعه؛ فانضم إليه أنصار الديموقراطية واضطر الإسبرطيون أن يمكِّنوهم من حكم البلاد، ولكن ما إن مضت خمسة أعوام وحل عام 399 قبل الميلاد حتى اقترف هؤلاء ما رأت فيه الأجيال اللاحقة وصمة عار في جبين الديموقراطية الأثينية، لا يمكن أن ينساها التاريخ.
كانت ثروة البلاد في هبوط، فراح كثيرون يبحثون عن كبش فداء يوجهون إليه اللوم، وكان الشعور سائداً بأن الفضائل اهتزت، وكان المسؤولون عن ذلك في نظرهم فئة من المعلمين ذوي الأفكار الجديدة الثورية، يتقدمهم معلم يعمل نحاتاً يقال له (سقراط).
والحقيقة أن سقراط لم يترك كتباً تحمل آراءه، وإنما نقلها إلينا تلميذه (أفلاطون)، ولم يكن لسقراط من عمل سوى التجول في شوارع أثينا مغرياً الناس بالجدل والمناقشة، دافعاً إياهم عن طريق السؤال والجواب إلى البحث عن المعرفة الحقيقية والفضيلة، ولكي ينهض بتلك الرسالة كان لابد من التشكيك في كثير من الأفكار السائدة، وهكذا أثار سخط عدد من الناس عليه؛ فاتهموه بالمروق الديني وإفساد الشباب.
تم تقديم الفيلسوف إلى المحاكمة، وكانت المحكمة غريبة تتكون من 565 قاضياً، كان اختيارهم من العوام بالقرعة العمياء، أي بحبات الفول كما كانت عادة الأثينيين في اختيار موظفيهم، وهكذا فقد كانوا خليطاً من بائع متجول، ومتسكع عربيد، وقصاب غشاش، وصياد سمك ومرابي.
وعندما فرغ المدعي من تلاوة اتهامه؛ نهض سقراط وقال: أيها الأثينيون لقد عشت شهماً شجاعاً، ولم أترك مكاني خوف الموت، وما أراني اليوم وقد تقدمت بي السن مستطيعاً أن أهبط عن ذلك المقام في الشجاعة فأتخلى عن رسالتي التي ألهمتني إياها السماء، والتي تهيب بي أن أُبَصِّر الناس بأنفسهم، فإذا كان ذلك التبصير هو ما تسمونه إفساداً للشباب الأثيني، فاعلموا إذن أيها القضاة أنكم إن أخليتم سبيلي في هذه الساعة فإني عائد من فوري إلى ما كنت عليه من تعليم الحكمة.
وهنا علت همهمة القضاة وأظهروا غضبهم واستنكارهم، ومع ذلك فقد مضى سقراط بكلماته فقال: لا تحسبوا دفاعي هذا عن نفسي خوفا عليها بل خوفا عليكم أنتم يا أهل أثينا الأحباء؛ فإني أخشى أن تفقدوا بفقدي رجلاً لا يعوض. فإنكم وحق الآلهة لن تجدوا من بعدي أحداً يبصركم بعوراتكم، لتركضوا كالجياد إلى غايات الخير والفضيلة والإحسان.
وازداد ضجيج القضاة وأحس رئيسهم بالخطر الذي تتعرض له حياة الفيلسوف من مثل هذه اللهجة الحادة فقال له: أليس من الأفضل لك أن تكسب عطف المحكمة، بدلاً من أن تتحداها بهذا الزهو والشموخ؟
أجاب سقراط: أتريدني حقاً أن أترضاكم يا أهل أثينا بالمديح والثناء الكاذب، وأن أرضي غروركم بالتوسل والبكاء.
والآن أيها القضاة احكموا بما شئتم واعلموا أن نفوسكم هي التي في كفة الميزان لا نفسي؛ فاحرصوا على العدل والحق.
وعندما سأل كبير القضاة سقراط عن أي العقوبات يظن أنها يستحقها؟ أجاب مبتسما: إن أليق حكم تصدرونه علي أن تحكموا لي بأن أطعم وأكسى على نفقة الدولة بقية عمري، اعترافاً منكم بما أسديت لأثينا وأهلها من الخير!
وصدر الحكم على سقراط بالإعدام.
في تلك الأثناء تسلل إليه ذات ليلة تلميذه الشاب (كريتون) وهمس في أذنه: لقد أعددنا كل شيء للهرب؛ فهيا بنا يا أستاذي إلى الحرية؛ فتطلع إليه سقراط طويلا ثم قال: كلا يا كريتون لن أهرب من الموت. إني لا أستطيع أن أتخلى عن المبادئ التي ناديت بها عمري كله، بل إني يا كريتون أرى هذه المبادئ الغالية التي ناديت بها حتى اليوم جديرة بذلك الثمن. أجل يا كريتون ليست الحياة نفسها بشيء، ولكن أن نحيا حياة الخير والحق والعدل فذلك هو كل شيء.
وفي ذلك اليوم حمل إليه الحارس كأس السم فتجرعه سقراط بكل شجاعة فلم يخف الموت لأنه كان على يقين من أن الخلود في انتظاره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى