شوف تشوف

الرأيالرئيسية

أمراض الثقافة العشرة

خالص جلبي

يتناطح جنرالان في السودان «برهان» بدون برهان، ودقلو «حميدتي» لا يدق حمدا، بل دما حراما مسفوحا. وما يجري في السودان قابل أن يحصل في كثير من بلاد العروبة، بسبب مرض الثقافة، فالكل يرضع من الثدي الثقافية نفسها، وهو ما يفتح الطريق لدراسة أمراض الثقافة العشرة وتبدأ من تأليه القوة.
1) (تأليه القوة) ونظرة إلى خروج ديكتاتوريين عسكريين في أكثر من بلد تقول لك إن الأمة غير موجودة أمام الحاكم المطلق، الذي هو عمليا الرب في حياة الناس، ولم يقل يوسف لرفيقه في السجن: «اذكرني عند ربك من عبث».
2) (إجازة الغدر) وقصص السياسة تعج بمسلسلات التآمر، بل لقد تم الاحتفال بأيام الغدر وأصبحت أعيادا وطنية وهي تأريخ ليالي المؤامرات واغتيال إرادة الأمم، كما هو الحال مع يوم 8 مارس في سوريا، ومثله في مصر، وهما نموذجان بئيسان عن هذه الثقافة المريضة.
3) مرض (الآبائية) فالتاريخ يصبح مقلوبا إلى الخلف، ولا يمكن أن نتجاوز من سبقنا، ويبقى نظام الأبوة أزليا، ولا نتجاوز نحن رحلة الطفولة العقلية والوصاية علينا، ويتوقف العلم عن حركة النمو التراكمية. وأفضل تعريف لهذا المرض هو الدوغمائية.
4) (احتقار العلم) وعدم تشكل تيار اجتماعي يثق بالعلم، ونظرة إلى وضع الإنتاج المعرفي في العالم العربي نصاب بالدوار، لأننا خارج المنظومة المعرفية وإحداثيات التاريخ والجغرافيا. ونموذج للهزيمة ما يقوم به أبطال الإعجاز العلمي في رد الاعتبار لثقافة مهزومة. أذكر من محاضرة لمالك بن نبي وهو يشرح هزيمة العرب في حرب الأيام الستة، أنها هزيمة حضارية.
5) سيطرة الفكر (الأسطوري الخارقي الخلاب)، وهو مرض يتخلل كل شرائح المجتمع وما زال الجن ناشطا في كثير من خيالات الجماهير الأمية وشبه الأمية.
6) عدم اعتماد (العقل السنني)، فمع كل حذف وتهميش القرآن لفكرة المعجزة، وبناء العقل الاستدلالي؛ فإن عقلنا (الجمعي) مشبع بفكرة (اللاسننية) وبعض كتب السيرة حولت الحياة المبكرة للإسلام إلى (كرونولوجيا) للغزوات والمعجزات، في عكس اتجاه القرآن تحديدا، وكأن رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم كان يستيقظ على غزوة وينام على سرية (الغزوة حضوره بالذات وبلغت 23، والسرية صحابة يقومون بالمهمة وزادت على ثمانين). وهكذا نقرأ سرية البحر وذات قرد، وغزوة تبوك ومؤتة.
7) وظن (الاستغناء بالنص عن الواقع) في رؤية تحرم من الإدراك الفراغي، في جدلية النص والواقع والتاريخ، ونموذج ذلك من مواجهة الكارثة اليومية بمفاهيم محنطة من العصور الأولى. ومنه فلا يمكن دخول المعاصرة، إلا بفهم الإضافات المعرفية.
8) (تهميش المرأة) ومصادرة إرادتها ومشاركتها في الحياة، وزحلقتها إلى شريحة (دونية) مسحوقة، طالما ليس لها عضلات مفتولة، وهو فصل حزين في قاموس الثقافة العربية الإسلامية، في مترادفات يومية. وحسب المنجرة، فإن أكثر من نصف نساء المغرب أميات.
9) تشرب الثقافة ببكتيريا (العنف) وكل مضاعفاتها المرضية، من أزمة الديموقراطية، والعجز عن حل إشكالية نقل السلطة السلمي، والكارثة الحالية ومقتل مليون إنسان في سوريا وهرب نصف السكان هائمين على وجوههم، التجلي الأعظم لهذه المعضلة.
10) (فهم التشريع بدون آليات علله الخفية) مفصولا عن إحداثيات التاريخ ومغزى الحكمة. والضجة الحالية عن ميراث المرأة، أو قتل المرتد، أو حكم الغناء والصورة، أو ارتفاع القبب والأذان والمآذن في سويسرا، ومشكلة النقاب والحجاب ولباس المرأة، مرادفات لصورة الأزمة.
ومما تقدم، أخلص إلى العلة تشخيصا بزعمي وتركيب الترياق، باعتباري أيضا طبيبا جراحا واجهت أخطر معضلات الجراحة في أمراض الأوعية الدموية، من أجل الوصول إلى الالتحاق بالحضارة العالمية فهما ومشاركة كتلاميذ متواضعين.
هناك تراكب لثلاث طبقات في مجتمع الحضارة، أعلاها التكنولوجيا وإفراز الأشياء، وهي تقوم بدورها على بنية تحتية من قاعدة علمية، وهذه بدورها لا تنبت وتستقر بدون مناخ عقلي خاص؛ فالحضارة تولد بمناخ نفسي عقلي متميز، من تفاعل الإنسان مع التراب والوقت. والحضارة هي ثلاث كلمات إبداع وصيانة وتطوير.
إذا بنينا مثلث (المناخ الفكري ـ القاعدة العلمية ـ الإنتاج التكنولوجي) نكون قد حفرنا في المكان المناسب من أركيولوجيا المعرفة؛ فوصلنا إلى الطبقة الأساسية الكتيمة العميقة لمياهها الجوفية، وذهبها الأسود اللجين. إن تأسيس قاعدة (المناخ الفكري) يشبه طاولة بأربع قوائم يستوي عليها مسطح الفكر؛ فلا يمكن الانطلاق لبناء (المناخ العقلي) والتحرر من (حزمة الأمراض الثقافية)، بدون تدشين قواعد منهج فكري رباعي المفاصل:
– أولا: لا خوف من التفكير….. فالفكر يسيل بنظام ضبط داخلي وقوانين ذاتية.
– ثانيا: لا حدود للبحث العلمي؛ فالعلم لا يعرف التوقف أو الاستقالة، التعب أو الاستحالة، الحدود أو الطابو، بما فيها ثلاثية (الجنس ـ الدين ـ السياسة).
– ثالثا: لا هرطقة للمختلف… على قاعدة إيجاد الملغي لا إلغاء الموجود؛ فالكون مركب على الزوجية والتعددية والاختلاف ولذلك خلقهم.
– رابعا: لا يستباح دم الإنسان من أجل رأيه، مهما كان هذا الرأي، في إطار إيجاد مجتمع اللاإكراه في الدين.
يجب أن ننشد البحث عن الحقيقة، كما يقول الفيلسوف «ليسينغ» من فلاسفة التنوير، ومعها الخطأ لزاما لنا؛ لأن الحقيقة المطلقة لله وحده، وطالما كان رأي الإنسان بحثا وتدجينا من البيئة فلا يفيد الحقيقة النهائية؛ فلا يسفح دمه من أجل رأيه.
المبدأ الرابع الخطير يقود إلى أهمية الاتفاق على بناء خطوط حمراء، يتفاهم عليها أطراف الحوار الاجتماعي، وهذا يعني تدشين المجتمع السلمي، فيحيد العنف. فلا تعيش الديموقراطية مع الإرهاب، ولا العنف مع الفكر، فأول لقاح يجب تعميمه في المجتمع، وكسب الأنصار له، وتجنيد الأتباع حوله هو نشر (اللقاح السلمي). فنطير إلى المستقبل بجناحين من العلم والسلم، كما هو شعاري الدائم.

نافذة:
لا يمكن الانطلاق لبناء المناخ العقلي والتحرر من حزمة الأمراض الثقافية بدون تدشين قواعد منهج فكري رباعي المفاصل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى