حمل اليونان القدامى الأمثال معاني المقارنة والحكمة والمماثلة. ولم يبتعد العرب في تراثهم الأدبي والفقهي والتاريخي كثيرا عن هذا المعنى. فلديهم نجد الأمثال تعني «جودة التشبيه وحسن الكناية، مع الإصابة في المعنى والإيجاز والاختصار في المبنى» كما يقول الجاحظ. ويجتمع في الأمثال أربع سمات لا تجتمع في غيرها من الكلام: إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه وجودة الكناية، فهي نهاية البلاغة، كما يقول ابن المقفع، لذلك استعملها العرب وتناقلها رواتهم قديما وحديثا، واستعملوها في خطبهم ومناظراتهم ومواعظهم، وجماليتها هي أنها ترتبط دوما بمناسبات وحوادث، فتارة نطقها أصحابها عن سليقة وفراسة وتارة عن حنكة وممارسة.
يضرب هذا المثل في الحاجة عندما يتمكن منها صاحبها، وأول من قال ذلك طرفة بن العبد الشاعر، وذلك أنه كان مع عمه في سفر وهو صبي، فنزلا على ماء، وذهب طرفة فنصب فخا لطيور القنابر، فبقي طول النهار ولم يصطد شيئا.
ثم حمل فخه ورجع إلى عمه، وأثناء عودتهما، مرا من ذلك المكان الذي نصب فيه طرفة فخه، فرأى القنابر يلقطن ما نثر لهن من الحبّ، فقال:
يا لك من قنبرة بمعمر /خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري /قد رحل الصياد عنك فأبشري
ورُفع الفخ فماذا تحذري/لا بد من صيدك يوما فاصبري
ربّ رمية من غير رام
يحدث أحيانًا أن يلقي أحد الأشخاص حجرًا وهو بالأساس لا علاقة له بالرماية ولا يجيدها فيحدث أن تصيب الهدف صدفة، فيقال هذا المثل لشخص قام بعمل جيد بالصدفة، وقصة المثل هي أنه يحكى أن أحد الحكماء وكان من أمهر الناس في الرماية والصيد، أنه خرج للصيد يومًا فلم ينجح بصيد أي شيء، وتكرر الحال معه لعدة أيام، فأضمر بنفسه، وقال إن لم أصطد اليوم أيضًا لأقتلنّ نفسي، وكان عنده ابن فأصر على الذهاب معه للصيد، وقام الحكيم برمي سهامه فلم يصب شيئًا، وطلب الابن أن يرمي مكان والده، مع أن الولد لا يتقن فن الرماية مطلقًا، وأطلق الابن سهمه باتجاه الطريدة فأصابها، هنا قال الحكيم (رب رمية من غير رام)، فذهب قوله ذاك مجرى الأمثال والحكم الشعبية يتداولها الناس عندما ينالون شيئًا بمحض الصدفة.
سبق السيف العذل
هذا المثل يذكره العرب في رواياتهم فيمن يتعجل في الأمور ولا يتروى فيها، ومن بعد ذلك يتبين خطأ عمله ذاك، وقصة هذا المثل كما يحكون أن أعرابيًا كانت لديه إبل هربت في إحدى الليالي وكان لها ولدان فلحقا بالإبل للبحث عنها واسترجاعها، حيث ذهب كل ولد في اتجاه، أحد الولدين وجد جزءًا من الإبل وعاد والآخر لم يعد أبدًا، وبعد فترة من الزمان قرر الأعرابي الحج، فذهب إلى سوق عكاظ وكان ملتقى للشعر والشعراء، فرأى رجلًا يقال له الحرث يلبس نفس ثياب ابنه الذي ذهب للبحث عن الإبل ولم يعد فعرف أن هذا الرجل قد قتل ابنه وأخذ سيفه وملابسه، فطلب الأعرابي من الحرث أن يريه السيف الذي يحمله، فأعطاه له فما كان من الأعرابي إلّا أن قتل الحرث بسيفه فقال له الناس أفي الأشهر الحرم؟! فأجاب الأعرابي (سبق السيف العذل(.
بين حانا ومانا ضاعت لحانا
يضرب هذا المثل عند حصول تشتت بين اختيار أحد أمرين أو ضياع شيء ما، أما قصة هذا المثل فهي ما تناقله رواة الطرائف في الأدب العربي أن أحد الرجال قد تزوج من امرأتين في آن واحد، وكانت الأولى تدعى «حانا» وكانت كبيرة في السن والثانية تدعى «مانا»، وهي صغيرة في السن، وعندما كان يزور «مانا» تبدأ بنتف الشعر الأبيض من لحيته حتى لا يظهر الشيب فيها، وعندما يزور الأخرى «حانا» كانت تنتف الشعر الأسود في لحيته حتى يشيب مثلها، وبعد مدة من الزمن نظر ذاك الرجل في المرآة فلم يعثر على أي أثرًا للشعر في لحيته، لا شعرا أبيض ولا شعرا أسود فقال غاضبًا (بين حانا ومانا ضاعت لحانا) وبذلك أصبح يضرب به المثل.
عادت حليمة إلى عادتها القديمة
يضرب هذا المثل في الشخص الذي يعود لسيرة وعمل قديم كان قد تركه لسبب ما وقصة هذا المثل هي، كما يقول بعض رواة العرب أن حليمة هذه هي زوجة حاتم الطائي الذي ضربت الأمثال بكرمه وجوده، وكانت حليمة على عكس حال زوجها فكانت البخل بعينه، وفي أحد الأيام أراد زوجها أن يعلمها الجود والكرم فقال لها إن الناس يقولون إن المرء إذا زاد من وضع السمن في القدر للطبخ أطال الله عمره بعدد ملاعق السمن التي يضيفها، فأخذت تضاعف كمية السمن في الطبخ وتعودت على الجود والكرم. وحدث أن توفي ولدها الوحيد الذي كانت تحبه أكثر من حبها لنفسها، فأصبحت تقلل كمية السمن في الطعام لعل الله يقصر في عمرها فقد تمنت الموت بعد وفاة ولدها، فقال ضيوف زوجها حاتم الطائي (عادت حليمة إلى عادتها القديمة) وأصبح قولهم هذا مضربًا للأمثال والحكم لمن يعود لعمل كان قد تركه سابقًا.
أشأم من البسوس
البسوس هي «البسوس بنت منقذ» من قبيلة بكر، وإليها تُنسب حرب البسوس التي وقعت في تهامة ودامت 40 سنة، وكانت بين قبيلتي تغلب وبكر ابني وائل ومن حالفهما من القبائل العربية، وانتصرت تغلب في أربعة حروب، وبكر في واحدة، وتكافأت القبيلتان في حرب واحدة، ودارت رحى كل معاركها في تهامة ونجد، في كل صيف في ذكرى وفاة كليب. وكانت البسوس قد خرجت بناقتها في زيارة إلى جساس بن مرة ابن أختها، وفي أثناء تلك الزيارة خرجت ناقة البسوس لترعى مع إبل جساس، وحدث أن انطلقت الناقة في أرض كليب بن ربيعة وهو زوج جليلة أخت جساس وكان سيد قبيلة تغلب.
ولما عرف كليب أن هذه الناقة الغريبة التي اقتحمت أرضه هي ناقة خالة جساس الذى لم يكن يحبه لما تدعيه جليلة من أن أخاها يساوي كليب في المنعة والعزة وهو الذي كان يُضرب به المثل في العرب ويقال عنه «أعز من كُليب»، أمر كليب بقتل الناقة، فثارت البسوس وأطلقت صيحتها الشهيرة «واذُلاه»، مستنجدة بجساس كي يثأر لها من كليب.
لكن جساس أخبرها أنه سيأتي لها بـ100 ناقة من نوق تغلب عوضًا عن ناقتها، فما كان من البسوس إلا أن هجت قومها بشعر، وعايرتهم بقلة النخوة والمروءة، فسقط ذلك في نفس جساس وخرج لقتل كليب «زوج أخته جليلة». ثم ندم جساس وجاء أبيه آسفًا على فعلته فأشار عليه أبوه بالهرب، وإلا فإن بكر ستُسلمه لتغلب. فجاء المهلهل بن ربيعة المعروف بالزير سالم – أخو كليب – وطالب أن يمنحوه جساس ليقتله بأخيه، فقالوا له إنه هرب، فطلب أن يأخذ همام أخو جساس أو مرة أبوه، عوضًا عنه، لينتقم من أحدهما لمقتل أخيه، فرفض بنو بكر وقالوا لا نُسلم أحدهما دون قتال، فاشتعلت الحرب بين الحيين، ودامت نحو أربعين عامًا.
وضربت العرب المثل بالبسوس في الشؤم وجعلوها نذير الخراب، بسبب ما جرته على العرب آنذاك من ويلات، بعدما أشعلت نيران هذه الحرب بسبب ناقتها، فقيل «أشأم من البسوس».