شوف تشوف

الرأيالرئيسية

ألف ليلة وليلة والعلاج بالقصة

 

بقلم: خالص جلبي

 

في قناتي التي دشنتها بعنوان «رحلتي في عالم الطب والفكر» وصلت إلى الحلقة ألف، فقلت في نفسي سأتوج الحلقة ألف حلقة وحلقة بكتاب «ألف ليلة وليلة». ومما لفت نظري دروس التاريخ في تحريم الكتب وحرقها مع المفكرين، وفي قرار الحرمان لكتب سبينوزا، الفيلسوف الهولندي، قام السنهدرين اليهودي بلعن سبينوزا أربع مرات، أن لا يقترب منه أحد أربع أذرع، ثم هجم عليه شقي فطعنه بسكين في رقبته؛ فلم يمت، لأن السل كان أقرب فمات عن عمر 42 عاما. وفي قرار لعن ابن رشد، فيلسوف قرطبة، اعتبر الفقهاء أن ما جاء في كتب هذا الرجل أشد من سموم الأفاعي الهارية والعقارب القاتلة، فلعن وطرد من مسجد قرطبة، وحبس تحت الإقامة الجبرية في قرية الليسانة اليهودية. وفي مصر طرد نصر حامد أبو زيد، وطلق من زوجته بفتوى أزهرية، وكان أفضل من فرج فودة الذي أنهى حياته بطلقة في الرأس ففجرت جمجمته، ولما سئل الغزالي عن قتله وهو أفقه القوم، قال: كانت حقا وصدقا وعدلا، سوى أن من قتله (افتأت) على حق الدولة في تصفية أمثاله. وعلينا أن نحزر ونفكك كلام الفقيه الغزالي عن كلمة (افتأت)، وهل تعني أنها ليست وظيفتهم، بل وظيفة الدولة؟ المهم الرجل كان مع قتل المسكين. 

ثم لحق الدور لسلمان رشدي في كتابه «آيات شيطانية»، فاستباحوا دمه ونشروا خبره، فخدموه بأفضل مما لو اشتغلت عليه عشرات المحطات الفضائية، فليس أفضل وسيلة لنشر الفكر من إعلان زندقة صاحبه، ومع كتابة هذه المقالة فقد طعن المسكين من جديد في أمريكا، فهو معطوب مختفي في ظلمات تكساس ويوكوتان وأركنساس ومشيغان.

ثم سمعنا عن تحريم كتاب «وليمة أعشاب البحر» لكاتب سوري، كتبه قبل ربع قرن من الزمان، ثم سمعنا خبرا لا نصدقه عن حملة لتحريم وسحب كتاب «ألف ليلة وليلة» من المكتبات، لأن فيه ثقافة إباحية، وكأن الكتاب منذ أيام السندباد البحري والخليفة العباسي لم يكن معروفا أن فيه قصص إباحية.

وأهمية هذا الكتاب من التراث أنه من أجمل ما كتب في العلاج بالقصة، ولقد أنزلت سورة كاملة في القرآن على شكل قصة، ولا يعشق الطفل شيئا مثل القصة، وليس أفضل في المعالجة النفسية مثل قصة هادفة، وقصص ألف ليلة وليلة بدأت من مشكلة مركزية تتعلق بالمرأة؛ فالملك شهريار جاءه أخوه يشكو له خيانة زوجته، ولكن أخاه بدوره اكتشف خيانة زوجة الملك شهريار، ومن هنا تبدأ حبكة الروايات الألفية، لينطلق الرجلان في رحلة كونية، عسى أن يريا مصيبة أحد هي أكبر من مصيبتهما، حتى كان اليوم الذي رأيا عملاقا يخرج برأسه من لجة الماء، ثم يستلقي على الشاطئ، بعد أن ينزل من رأسه صندوقا حبس فيه زوجته، وتخرج الزوجة من الصندوق تطلب الفاحشة مع الرجلين، ثم تقول لهما في أول درس إنه لا شيء يحجز المرأة عن الفاحشة إلا ضميرها.

ويرجع شهريار إلى قصره وقد امتلأ حقدا على كل أنثى، فيتزوج كل ليلة من واحدة، ليقوم بإعدامها في الصباح، وتتوالى الأيام وتتعاقب الإعدامات!

حتى قامت شهرزاد الذكية بحل المشكلة كما يفعل علماء النفس، فتقدمت لتكون زوجة الجبار، وفي الليلة الأولى تقفز إلى الواجهة أختها دنيا زاد، بموجب خطة للعلاج النفسي مليئة بالخطر في التعامل مع مجنون، فتطلب من أختها أن تروي حكاية، وتبدأ الحكاية الأولى برجل الأحلام الفقير. والحياة حلم، وتحت أقدام كل واحد منا ثروة عليه اكتشافها.

تقول القصة إن رجلا غنيا في بغداد نكب في ثروته فأصبح من البائسين، حتى كانت الليلة التي رأى في المنام أن يذهب إلى مسجد في القاهرة فيعثر على ثروة، ولكن مصيره هناك كان السجن بعد أن ارتاب فيه رئيس الشرطة، وعندما حقق معه حدثه بمنامه، مما جعل رئيس الشرطة يضحك فيقع على قفاه، وقال: لقد رأيت في المنام هذه الليلة ما رأيت، ثم بدأ يقص عليه مكان بيت البغدادي، والفقير المسافر يتعجب من دقة وصف بيته البئيس، ثم أطلقه رئيس الشرطة فلم يكن في نظره أكثر من غبي.

وعاد الرجل بسرعة على ظهر حماره ليفتش بيته ويعثر على كنز هائل. ولكن شهريار قطعت القصة من منتصفها، ولم يكن بد للملك أن يؤجل حكم الإعدام حتى يعرف نهاية الحبكة، وهكذا توالت القصص قصة خلف قصة وقصة في قصة، في منعرجات ذهنية ما لها من قرار.

وعندما وصلت إلى قصة عاطف رقم 242، حكت قصة هارون الرشيد وهو يتصفح كتابا، ثم يطلق ضحكة مجلجلة، ويتعجب الوزير إلى درجة القلق والخوف من شدة ضحك أمير المؤمنين، ثم لينطلق في سلسلة مغامرات لا نهاية لها، وبعد عودة طويلة سارع إلى الكتاب نفسه ليعرف سر ضحك مولاه، ليكتشف أن ما أضحك الرشيد لم تكن سوى قصص مغامراته.

وعند هذه القصة عفا الملك عن شهرزاد، وتوقفت روحه عن الإجرام، ولكن شهرزاد تتابع رحلة التأهيل؛ فالنكس بعد الشفاء أخطر، فتابعت قصصها حتى القصة الواحدة بعد الألف، ليكتشف الملك أنه أصبح والدا صالحا وبيته حافل بالذرية الطيبة.

والقصة كما يقول علماء النفس تدخل إلى اللاوعي، ويعشقها الأطفال، وتقوم بترميم النفس المحطمة المنشطرة الإجرامية، كما حصل مع شهريار فقامت بعلاجه على نحو غير مباشر، فلا أصح من التلميح دون التصريح ولا أجمل من الترميز دون التعبير، ولا أقوى من الكناية دون إفصاح.

هذه القصة من تراثنا، وأنصح كل واحد باقتناء الكتاب وقراءته، ولكن حراس العقيدة اليوم يطلبون اليوم رأسي شهريار ودنيا زاد، بما يذكر بالملك المريض السيكوبات.

 

نافذة:

أهمية هذا الكتاب من التراث أنه من أجمل ما كتب في العلاج بالقصة ولقد أنزلت سورة كاملة في القرآن على شكل قصة ولا يعشق الطفل شيئا مثل القصة وليس أفضل في المعالجة النفسية مثل قصة هادفة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى