ألغاز العلب السوداء بالجزائر
توفيق رباحي
بعيدا عن النقاش السياسي والقضائي، ستبقى عودة الجنرال المتقاعد خالد نزار إلى الجزائر، رغم الأوامر الدولية بالقبض عليه، لغزا محيرا لا يعرف خباياه إلا الذي أشرف عليه والذي استفاد منه. ومثلها سيبقى إسقاط التهم عن الجنرالين الآخرين محمد مدين وبشير طرطاق، ومعهما سعيد بوتفليقة ولويزة حنون، لغزا آخر يعرفه فقط من يمسك بالخيوط من وراء الستار.
هذان اللغزان ليسا مجرد حلقة أخرى في مسلسل طويل من الغموض يلف الشأن العام في الجزائر.
بالنسبة إلي، وفاة الجنرال العربي بلخير في مثل هذا الشهر من سنة 2010 تشبه حريق المكتبة الوطنية بالجزائر العاصمة عشية الاستقلال في 1962، على يد إرهابيي المنظمة السرية المسلحة (تنظيم فرنسي رفض وقف إطلاق النار واستقلال الجزائر). الرجل، الذي كان يوصف بالكاردينال، صنع مصير الجزائريين دون أن يوكلوه. تحكم في مصيرهم وقاد البلاد، رفقة حفنة من الجنرالات، كيفما شاء دون أدنى مساءلة. ثم تعب ونال منه المرض، فمات في بيته مثل أي عجوز مغمور في قرية نائية في أرياف الجزائر.
«يا سيادة اللواء المتقاعد، يا عراب الجنرالات وصانع الرؤساء، يا من أمسكت بمصائرنا ومصائر آبائنا وأمهاتنا وأبنائنا وبناتنا، هذا نداء من واحد في عمر أولادك: من حق الجزائريين عليك أن يعرفوا، وصدرك وذاكرتك هما خزانة هذه المعرفة وهذا العلم من مصدرهما الأول». هذه فقرة من مقال نشرته في الأشهر التي سبقت وفاة بلخير، ومع انتشار أخبار اعتلال صحته، فجاءتني ردود ذكرتني بما كنت واثقا منه، وهو «قد أسمعت لو ناديت حيا.. لكن لا حياة لمن تنادي».
ومثل بلخير، شكلت وفاة الجنرال إسماعيل العماري في صيف 2008، خسارة فادحة لجياع الحقيقة والمعرفة. وكذلك وفاة اللواء محمد العماري في فبراير 2012 وغيرهم من القادة الميدانيين في عشرية الحرب الداخلية التي فتكت بالجزائر.
فترة المخلوع بوتفليقة وحدها تحمل كنوزا تكفي لإثراء الحقل السياسي والتاريخي والمعرفي بشكل غير مسبوق. ومثلها فترة الجنرال زروال والرؤساء بن جديد وبومدين وبن بلة.
أرجح أن من أكثر ما يسمع الصحافيون والباحثون ردا على أسئلتهم الفضولية، عندما يلتقون مسؤولين سابقين أو يزورونهم في بيوتهم، عبارات من نوع «سيأتي وقته» أو «لم يحن أوانه بعد». ثم يهرم المصدر أو يمرض فيتوفى، ولا يحين الوقت أبدا.
مذكرات السياسيين الجزائريين، الأحياء منهم والأموات، لا تشبع فضولا ولا تزيد معرفة كبيرة. في بعض الحالات هي مبتورة، كما هو حال مذكرات الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، والزعيم التاريخي حسين آيت أحمد.
صنف آخر من المذكرات هو عبارة عن ترويج للذات وادعاء بطولات بعضها لا وجود له، كما هو حال أحدهم يزعم أنه عمل مع بومدين في الرئاسة، فكاد أن يقول عنه إنه نبي مرسل. هناك في هذا الصنف مذكرات الجنرال خالد نزار التي تنم عن نوع من جنون العظمة، وهي أيضا استباقية على طريقة «أفضل أسلوب للدفاع هو الهجوم»، لأن نزار يدرك بأنه مثير للجدل، وبأنه معرض للمتابعات القضائية وللغضب الشعبي.
أستطيع أن أعيد هذه الثقافة البائسة إلى السرية، التي يتربى عليها السياسي الجزائري. فمنظومة الحكم الجزائرية ذات طبيعة أمنية مبنية على السرية والكتمان، المصحوبين بالذعر من التبعات القاسية في حالة الشذوذ عليهما، حتى المدنيون سرعان ما يلتزمون بهذه القاعدة، فور دخولهم محفل النظام.
وأعيدها أيضا إلى ثقافة استصغار السياسي الجزائري لشعبه، وعدم ثقته فيه وفي مؤسسات البلاد، بما في ذلك المؤسسات التي تحمي هذا السياسي وتستر عيوبه وخطاياه وتصنع منه بطلا، مثل الصحافة والمجتمع المدني.
ويمكن أخيرا إعادتها إلى نوع من الأمية، يجعل صاحبه عاجزا عن إدراك أهمية توثيق المعارف ومشاركتها مع الآخرين، وحق الأجيال المقبلة في الاطلاع والمعرفة.
فات الأوان وخسر الجزائريون الكثير من المعارف التي رافقت أصحابها إلى قبورهم.. سيكون من الظلم أن يتوفى الألوية محمد مدين أو بشير طرطاق أو محمد بتشين، والرؤساء اليمين زروال ومولود حمروش وعلي بن فليس وغيرهم، قبل أن يؤدوا ما عليهم من دين تجاه الجزائريين، ويفرغوا شيئا مما في جعبتهم بصدق ونزاهة.
هذا أقل المطلوب منهم تجاه نخب بلادهم، عله يكفر شيئا من خطاياهم..