«أكرموا عزيز قوم ذل»
من حسن حظ المغرب والجزائر، أنهما كانا يلوذان في بعض الأحيان إلى الإصغاء إلى بعضهما. كان ذلك استثناء في علاقات اتسمت بكثير من الحذر وغياب الثقة والارتياب في النوايا المعادية، التي تصدر عن الطرف الآخر. وأي إكراه أقوى مما تفرضه جغرافية الجوار؟ حتى أن كاتبا تساءل عما سيكون عليه الوضع لو أن هرقل شق هوة سحيقة بين المغرب والجزائر، بدل أن يضرب في عرض البحر المتوسط كما تقول الأسطورة.
قبل أيام بادرني صديق بتعقيب على موضوع حول سفراء المغرب في الجزائر، رأى أني أغفلت، لسبب أو لآخر، الإحاطة بالدور الذي قام به الدبلوماسي القدير قاسم الزهيري في الجزائر، والذي جاء تعيينه في المنصب بعد معاودة تطبيع علاقات البلدين، على خلفية حرب الرمال لعام 1963.
إنها لمهمة جديرة بالتقدير والتأمل، وأسعد السفراء من لم يكن يرن هاتف مكتبه أو إقامته، لأن علاقة بلاده والدولة المضيفة، لا تتطلب غير حضور المناسبات وتثبيت حضور رمزي، فيما أن آخرين لا يأتيهم النوم إلا بعد أن يطمئنوا إلى أن الفارق الزمني بالساعات يسمح بغفوة ما قبل الصباح.
فتشت في أوراق قديمة عما ينعش الذاكرة، طالما أن السياسيين المرموقين في غالبيتهم بخلاء أكثر من اللزوم في الكتابة عما عاشوه وعاصروه، وما اعترضتهم من صعوبات وإشكاليات. إلا أن أكثر البوح وأقربه يكون في العزاء وتكريم الراحلين. والواقع أن عهدي باسم قاسم الزهيري ذي الإيحاء الإعلامي والثقافي والسياسي، أنه كان مديرا لصحيفة «العلم». ولم ينس «الشاوش» الطيب الذي اسمه «عبد النبي»، أن يذكر مناقبه في كل مرة أتيحت له فرصة الحديث عنه.. من باب استظهار الأسماء والأوزان الكبيرة التي أثرت الحقل الإعلامي، في مراحل مختلفة.
واستمر الزهيري وفيا لقلمه ومبادئه كاتبا وباحثا وسفيرا. واعتبرت فترة توليه وزارة التعليم الثانوي والتقني الأقصر من نوعها، بالنظر إلى التي كانت تسود القطاع في نهاية السبعينيات، والأرجح أن إعفاءه من الوزارة كان بخلفية التحضير لتعيينه أول سفير للمغرب في نواكشوط، بعد تطبيع علاقات البلدين، حيث شكل حضور الوفد الموريتاني إلى القمة الأولى لمنظمة المؤتمر الإسلامي في الرباط سنة 1969، مؤشرا لناحية فتح صفحة جديدة في علاقات البلدين الجارين.
لابد من وصفة عصية على الإدراك تجعل سفيرا بقامة قاسم الزهيري يضع بصماته على التضاريس الغائرة في علاقات بلدين خرجا للتو من مجابهة عسكرية مدمرة. ولم يكن سهلا عليه أن يخلف المستشار محمد عواد في منصب اختير له بعناية فائقة. ومثلما كان على السفير محمد الشرقاوي أن يقنع الفرنسيين بأن التطلع لبناء المستقبل أسهل طريق لتجاوز ركام المرحلة الاستعمارية القاتمة، كان على قاسم الزهيري أن يدفع الجزائريين إلى فتح عيونهم على فضاء أرحب. وسيمارس التجربة ذاتها في علاقات المغرب مع موريتانيا. وكما عمل على نحو فعال في الرد على المزاعم الدعائية التي كانت تنتعش في مستنقع الخلافات المغربية – الجزائرية، حرص على تطمين المغاربة بأن أفضل المواقف هي تلك التي التزموا بها على حياد تام حيال ما كان يجري في الجزائر من صراعات خفية ومعلنة.
كافة الملفات العالقة تطفو على السطح دفعة واحدة: خلافات ترسيم الحدود والتنقيب في الأسس التي تكفل بناء قاعدة حسن الجوار، وكل أنواع العتب المتبادلة.. لأن الحروب أيا كانت ضراوتها لا تفعل أكثر من حض المتحاربين على الجلوس إلى مائدة المفاوضات في نهاية الأمر، من منطلق ترجيح كفة أصحاب الحقوق المشروعة.
غير أن الرئيس الجزائري أحمد بن بلة كان له منظور آخر، يفيد بأن سياسة الهجوم تخفي الأطماع التوسعية. ويبدو أن الذبابة التي لسعته أطلقت العنان للوجه الآخر الذي كانت تخفيه أدبيات التضامن والوفاق. واستحال على البلدين الجارين تضميد جراحهما، على رغم كل ما أبداه المغرب من ضبط النفس والميل إلى تغليب حكمة الواقعية.
منذ ذلك الوقت التقط المغاربة ما يكفي من المؤشرات التي تدل على أن علاقة الرئيس الجزائري أحمد بن بلة بوزير دفاعه هواري بومدين ليست على ما يرام. وحدث أن بن بلة نهر بومدين في اجتماع خاص استضافته القاهرة، إذ منعه من الحضور إلى جانبه في مباحثات ضمت الزعيم المصري جمال عبد الناصر. وعندما انعقد اجتماع مماثل على الشريط الحدودي بين المغرب والجزائر، كان غياب كل من هواري بومدين وعبد العزيز بوتفليقة لافتا، إلى درجة لا تخطئها العين.
كل ذلك شأن داخلي صرف. ثم جاءت مفاجأة الانقلاب الذي قاده وزير الدفاع هواري بومدين ضد رئيسه أحمد بن بلة، الذي كان من جهته انقلب على رفاقه قادة الثورة الجزائرية، مثل حسين آيت أحمد ومحمد بوضياف. واجه السفير المغربي قاسم الزهيري موقفا في غاية التعقيد، وعندما أبرق إلى الرباط يستفسر حول ما يجب القيام به، تلقى إشارات مشجعة.
فقد تدخل لدى القيادة الجزائرية الجديدة، متمنيا عليها عدم محاكمة الرئيس السابق أحمد بن بلة أو إعدامه، لأن ذلك لن يضيف شيئا إلى ما ينشده الجزائريون في البحث عن الاستقرار. ودافع قاسم الزهيري بقوة عن منظور إنساني، محوره أن الرباط تعتبر الأمر شأنا داخليا جزائريا، وأنه على رغم كل المتاعب التي تسببت فيها مغامرات بن بلة، فإنها تأمل إلى الرئيس هواري بومدين أن يكون «أكرم بعزيز قوم ذل»، وأن يترك له فرصة توافر محاكمة عادلة أو يمتعه بسراح، على قاعدة الصفح والمغفرة. وتحقق بعض من تلك التمنيات الأخوية الصادقة.