أقوى من حسن الظن
ما انفك وقعُ الاسم يحدث صداه. مثل علامة مسجلة ترددت صورة الرجل على نطاق واسع. وعلى هدي أفلام «الكوبوي» التي تضع كلمة «وانتد» للإشارة إلى المطلوب إلى العدالة، سجل اسم شيخ العرب، أحمد أكوليز على رأس القائمة.
وقتها أنتج الصراع سلوكات من هذا القبيل. هدفها جلب المواطنين إلى معترك المواجهة كي لا تبقى محدودة الأثر. وما من تقليعة تزدهر، إلا في نطاق سياق صراع المراحل. ولم يكن اختيار نعت «شيخ العرب» بعيدا عما يتفاعل محليا وإقليميا وعربيا، أقلها استلهام مفهوم المشيخة التي تفرض وجود رموز وأتباع وأعداء أيضا.
ملصقات بالأبيض والأسود عُلقت على الجدران في معظم المدن المغربية، تحض كل من رآه أو سمع عنه أو امتلك ما يساعد في اقتفاء أثره، على الإدلاء بإفادات إلى أقرب مركز شرطة أو قيادة أو باشوية. لكن وقائع محفوظة في صدور رجال، تؤكد أنه حين تمكنت فرقة أمنية من رصد آخر تحركاته في مدينة الدار البيضاء، صدرت أوامر من وزير الداخلية محمد أوفقير تقضي بأنه معني بالعثور على الأسلحة التي كان يستخدمها شيخ العرب ورفاقه، وليس باعتقاله لأن المسألة قضية وقت. لذلك ذهبت تخمينات إلى استكناه ما وراء إصرار الجنرال المتنفذ.
هل كان أوفقير يقايض شيئا بنقيضه؟ أم أن حساباته رست على قناعات لا تدور في رؤوس ملاحقي الشيخ الذي نسجت حول تحركاته روايات أقرب إلى الخيال. إذ يكون في مكانين أو ثلاثة في وقت واحد. ويكون له لحية وشارب في حالة وحليق الذقن في أخرى. يرتدي الجلباب ويجول على أسواق البوادي مختفيا، ويظهر في أزقة المدن الضيقة في التوقيت ذاته.
ما يهم أن الاسم الذي ارتبط بأقصى فصول المواجهات المسلحة، سيظهر لاحقا بعد مرور عقود على حادث شطبه من الحياة. وكنت سمعت روايات متباينة في قصته. ثم عرفت أن أحد أقربائه صار رجل أعمال ناجحا، استبدل حمل السلاح بالدراسة والمعرفة والمثابرة. وألغى من ذاكرته كل الأفكار المشوشة، ليهتم بتربية أبنائه وتأمين ظروف عيش عادية، لا يصارع أحدا، ولا يناوئ فصيلا أو فكرا.
ترى كيف تتباين المصائر بين أبناء الدم الواحد؟ وفي تجارب حزبية أن بعض الأشقاء يتوزعون، منهم من ينتسب إلى اليسار، ومن يدين بالولاء لليمين ومن يختار طريقا ثالثة. وعلى مائدة الطعام أثناء الزيارات العائلية، ينسى الجميع خلافاتهم. بل إن الأب الذي يكون قياديا في هذا الحزب، لا يصدمه أن نجله يعتلي قيادة حزب منافس. فالعائلة كالزاوية تظلل الكل، أما المصالح فتختلف بمقدار الانشغالات والأرزاق والطموحات.
المثير في هكذا مسار يفرق بين شيخ العرب وذريته ليس النجاح الذي صادفه رجل الأعمال في حياته، ولكنها الفرصة التي يمكن أن تتاح، على قدر الصبر والعزيمة والجدية. وفي المغرب تحديدا لم يؤاخذ أبناء وأحفاد بجرائر الآباء والأجداد إلا نادرا، كما في حالة ذوي الجنرال محمد أوفقير الذين أطبقت عليهم الرغبة في الإهانة والانتقام. ومن الصدف الفارقة أن بعضهم أشعل الشموع تضامنا مع معتقلين سابقين ومعارضين ملاحقين. كما فعل نجل الزعيم المهدي بن بركة، رغم أن الدم الذي فرق بينهم لازال ينتظر قبر الإشهاد. ويا لها من مفارقة أن تكون معالم قبر أوفقير تبددت في التراب، بينما قبر بن بركة لم يعثر عليه أحد!
روى زميل إعلامي أنه توسط مرة في قضية محض إنسانية، عندما طلبت إليه شقيقة العقيد محمد أمقران أن يمكن هذا الأخير من وضع توقيعه على إذن بصرف راتبه الذي لم ينقطع. لكن الصحفي الذي كان يتابع المحاكمة العسكرية في القنيطرة في مواجهة المتورطين في المحاولة الانقلابية صيف العام 1972، تمكن من الاقتراب إلى أمقران. وتسبب له الحادث في استنطاق احترازي، أخلي سبيله بعده، واستمر صرف راتب أمقران ورفاقه من موازنة الوظيفة العسكرية إلى أن قالت المحكمة كلمتها الأخيرة.
مقربون إلى الجنرال محمد المذبوح ومن أسرته، لم ينلهم أي أذى أو ظلم، على إثر تورطه في حادث الصخيرات، وكذاك هي حال رفاقه الذين أعدموا في خلاء بضواحي الرباط. ونذكر رؤوف، نجل الجنرال أوفقير، أنه شاهد والده حزينا ذاك الصباح، وهو يرتدي بذلته العسكرية متوجها إلى ساحة الإعدام. ووقف كثيرون مشدوهين أمام الحالة المغربية التي تفرق بين المتهم وذويه، حتى عندما يتعلق الأمر بالتورط في إطاحة النظام.
لولا الصفح والترفع وعدم أخذ الناس بغير ما فعلوه، لما أمكن للتجربة السياسية في المغرب أن تكون مختلفة. حتى إذا التفت النظام في اتجاه المعارضة، كان هناك ما يكفي من الجسور التي تحفظ المودة والتفاهم. وصعب على عقول متشنجة أن تستوعب كيف أن رجالا صدرت ضدهم أحكام قاسية في محاكمة مراكش لصيف 1971، أصبحوا يعتلون واجهة الوزارة الأولى والمسؤوليات الحكومية، ولعل من خطط لإرسال طرد قاتل إلى القيادي محمد اليازغي، لم يدر في خلده يوما أنه سيصبح وزيرا. فيما أن المناضل محمد بن سعيد آيت يدر، الذي صدر حكم بإعدامه، سيدلف في صيف العام 2015 إلى رحاب القصر الملكي ليضع على صدره وسام تقدير من طرف الملك محمد السادس الذي أوفى الرجل اعتباره.
وإني لأذكر جيدا بعض اللغط الذي أثير ذات يوم في القصر الملكي في فاس، عندما تقدم أعضاء الوفد غير الرسمي إلى قمة أديس أبيبا للسلام على الملك الحسن الثاني، بسبب «وعكة» بروتوكولية كان آيت يدر طرفا فيها. وعلى غير المألوف أخذت مرة صورة تذكارية لضحايا سنوات الرصاص وذويهم إلى جانب الملك محمد السادس في القصر الملكي في الرباط.. إيذانا بمصالحة تاريخية لم يعرف العالم مثيلا لها في إنصاف المظلومين. وإنه لأمر جدير بالتأمل أن يكون من سجنوا أو وضعوا تحت الإقامة الجبرية فكت قيودهم وأغلالهم بلمسة أقوى من حسن الظن، عاودت ساعة الوئام والصفاء بين المغاربة إلى تعاقد تاريخي أزلي ومتواصل.