أقوى حملات الدولة ضد الفساد عبر التاريخ
أشهر قصص تطهير السلاطين لدواليب «المخزن»
يونس جنوحي:
عندما نتأمل الاستدعاءات الأخيرة التي بات يتوصل بها بين الفينة والأخرى وزراء سابقون ومسؤولون كبار، لم تنفعهم لا الحصانة البرلمانية ولا لائحة الأرقام في ذاكرة هواتفهم، لا يمكن إلا أن نخلص إلى أن دواليب السلطة لا يمكن أن تتوقف حتى تطحن الذين خرجوا عن المسار، أو اتُهموا بذلك على الأقل.
في تاريخ المغرب، هناك أرشيف حافل جدا، بتفاصيل بعضها صادم وأخرى تصلح موضوعا لأكثر المسلسلات التاريخية تشويقا، لقصص وزراء ومسؤولين كبار كانوا يمسكون زمام السلطة ويتحكمون في إصدار القرارات، وانتهوا بشكل مأساوي.
قصة تأسيس «وزارة الشكاية»
أول سلطان مغربي فكر في إنشاء وزارة خاصة بالشكايات، هو السلطان محمد الرابع بن عبد الرحمان، والذي حكم المغرب ما بين سنتي 1859 و1873 ليخلفه ابنه الحسن الأول في الحكم.
السبب الرئيس الذي جعل هذا السلطان يقرر تأسيس وزارة الشكاية، وهذا اسم اختاره بنفسه، توصله بأخبار تفيد بأن بعض وزرائه يمنعون رسائل تضم شكايات بعض القبائل من الوصول إليه، خصوصا وأن بعض تلك الشكايات تُدين بعض كبار موظفي المخزن، سواء داخل الإدارة المركزية في فاس، أو في الأقاليم التي يُعين فيها السلطان خليفة له.
أبرز الباحثين المغاربة الذين أثاروا موضوع تأسيس وزارة الشكاية، هو الباحث المغربي عبد العزيز بن عبد الله، والذي سبق له أن أصدر بحثا مميزا عنوانه: «الوزارة والوزراء عبر التاريخ نموذج للوزراء وكتاب الدولة».
حيث تناول فيه موضوع التحولات التي عرفتها كواليس تعيين الوزارات وإعادة هيكلة بعض الإدارات المخزنية، في إطار حملات التطهير وعقاب بعض المفسدين عبر تاريخ المخزن.
يقول: «أنشئت في عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان وتقلدها الفقيه علي المسفيوي، وهو المنصب الذي كان يطلق عليه في عهد الحماية المحكمة العليا الشريفة، وربما على وزارة العدل كلها.
وكان وزير الشكايات يسمى (صاحب الرد) في عهد بني أمية بالأندلس، ومهمته دراسة ما يرد من شكاوى على السلطان وإبلاغ القرار الملكي إلى أصحابها، ولم يكن له اختصاص شرعي، ولكن كان له وحده دون باقي الوزراء حق جمع هيئة العلماء لتدرس إما نقطة شكلية من أجل توضيح وجهة نظر التاريخ في نشأتها، لإحالتها على قاض أو محتسب آخر، ويكون دور الهيئة في هذه الحالة دور مجلس النقض والإبرام، وإما دراسة صلب الموضوع للبت فيه ويكون دورها في ذلك دور مجلس الاستئناف.
وكان صاحب الشكوى في عهد المرينيين إذا أراد إبلاغ شكواه حال ركوب السلطان وظهوره، صاح من بعيد: «لا إله إلا الله انصرني نصرك الله»، فتؤخذ قصته وتعطى لكاتب السر، فإذا رجع إلى مقره اجتمع مع كاتب سره وقرأها عليه.
وفي العهد العلوي كان كل وزير يتلقى مطالب وشكاوى الناس مباشرة في دائرة اختصاصه، ويأمر أحد الكتبة بتقييد ذلك، ليقدم هو جريدة المطالب الشفاهية للسلطان مباشرة في أوقات الاستقبال وبواسطة صاحب الوضوء في غيرها، فيوقع السلطان على فصول تلك الجريدة، بما يراه بالقلم الرصاصي الأحمر تارة والأزرق أخرى.
واختير يوما الثلاثاء والأحد لسماع السلطان المظالم، حيث تقدم لحضرته جريدة بأسماء أصحاب الشكايات، وهو يأتيهم واسم العامل المتولي عليهم، فيقضي السلطان بما يراه العدل.
وذكر ابن زيدان في (الإتحاف) أن السلطان محمد الرابع عين على رأسها السيد محمد بن الحاج عبد الله الصفار، فهو أول وزير للشكايات بالمغرب 1880 م.
وكانت وزارة خاصة بالأندلس، ومن جملة من تقلدها في عهد الموحدين عبد الرحمان بن سعيد الغرناطي، وزير المظالم لدى ابن مردنيش وأسرة بني سعد، صاحبة قلعة يحصب، وانضم إلى الموحدين بعد مقتل ابن مردنيش».
عندما أرسل الملوك وزراء ومسؤولين إلى السجن
أشهر قضية في هذا الباب، هي محاكمة الوزراء التي عرفها عهد الملك الراحل الحسن الثاني، والتي بدأت أولى مؤشراتها تظهر سنة 1970 عندما عاد الكولونيل المذبوح، وهو صديق للملك الراحل الحسن الثاني وفي الوقت نفسه أحد كبار المسؤولين في المؤسسة العسكرية وحراسة القصر الملكي والبروتوكول من رحلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ويخبر الملك أن بعض المستثمرين الأمريكيين يشتكون من محاولات ابتزاز تعرضوا لها من مسؤولين مغاربة كبار.
لم يكن الملف يحتمل التأجيل، لكنه يحتاج إلى تحر ودراسة وجمع للقرائن، وصُدم المغاربة وقتها عندما أعلن التلفزيون والصحف، ونشرات أخبار الراديو، أن الملك أمر باعتقال وزراء من الحكومة وإحالتهم على المحاكمة، وصارت القضية معروفة لدى الرأي العام بقضية «بان أميريكان». وصدرت فعلا أحكام ضد كل من الوزراء يحيى الشفشاوني والمامون الطاهري ومحمد الجعيدي وعمر بن مسعود، وعبد الحميد كريم وعبد العزيز بنشقرون وإدريس بلبشير ومحمد سيناصر، بينما صدر حكمان فقط بالبراءة، استفاد منهما كل من عبد الكريم والأزرق.
ورغم أن علاقات بعض هذه الأسماء أعلاه كانت تصل حد الصداقة مع قضاة ومسؤولين كبار في وزارة العدل، حتى أن اثنين منهم كانا صديقين «فوق العادة» للمستشار أحمد رضا اكديرة الذي تقلب بين وزارة الداخلية ومدير ديوان ولي العهد ووزير «غير عادي»، إلا أن الأحكام التي صدرت في حق الوزراء المُدانين كانت قاسية، إذ تجاوزت في المجمل عشر سنوات، بالإضافة إلى غرامات مالية.
هذه الواقعة، كانت أشهر حملة لمعقابة المدانين بتهم الفساد واستغلال النفوذ ومراكمة الثروة بطرق غير مشروعة والابتزاز، في صفوف كبار المسؤولين خلال القرن العشرين.
وقبلها، كان تاريخ المغرب حافلا بمحطات مشابهة، لكن أغلبها لم ينته في المحاكم. وعند تأمل أغلب الوقائع التاريخية لطريقة عقاب سلاطين الدولة العلوية لوزرائهم، يظهر أن أشهر عقوبة طُبقت في المغرب، هي وضع هؤلاء الوزراء وكبار المسؤولين رهن الإقامة الجبرية في منازلهم. لكن المثير للاستغراب، أن بعض هؤلاء الوزراء بادروا إلى معاقبة أنفسهم بأنفسهم فور طردهم من المخزن، ولزموا بيوتهم لا يغادرونها نهائيا، إلا أن خرجوا منها على الأكتاف إلى المقابر.
++++++++++++++++++++++
غضبات من زمن «الحرس القديم»
العام 1894، كان استثنائيا في المغرب. فقد كان فرصة لنخبة المخزن لكي يُصَفُّوا الحسابات مع بعض الأعيان، وموظفين مخزنيين بمجرد ما أن تم إعلان خبر موت السلطان الحسن الأول.
كان معروفا أن هذا السلطان، كان يعتمد على بعض الوزراء الذين ورثهم عن فترة والده، محمد الرابع، ووزراء آخرين نقلهم بقرار منه عندما أصبح سلطانا سنة 1873، من موظفين في إدارات المخزن لكي يصبحوا وزراء ومستشارين.
والحقيقة أن المولى الحسن الأول لم يكن الوحيد الذي اعتمد هذه السياسة في مزج القدامى مع الجدد في محيطه من وزراء ومخزنيين، بل كان والده أيضا المولى محمد بن عبد الرحمان قد حافظ على الهدنة مع «الحرس القديم»، الذي ورثه عن والده المولى عبد الرحمان. هذه السياسة كانت لها إيجابيات وسلبيات أيضا، فمن بين الأمور الإيجابية في اعتماد الحرس القديم، الحفاظ على الهدنة الداخلية، خصوصا ولاء العمال والقضاة وخلفاء السلطان في المناطق. لكن الأمور السلبية كانت تتمثل في رغبة مخزنيين في الترقي الطبقي والوظيفي، وهو ما يخلق صراعا كبيرا بين الوزراء قد يتطور إلى درجة التسبب في زلزال سياسي، يؤثر سلبا على محيط السلطان، تماما كما وقع بين الصدر الأعظم باحماد وآل الجامعي، إذ إن باحماد الذي ورث الحجابة عن والده الذي اشتغل مع المولى محمد الرابع، أراد أن يصبح صدرا أعظم في عهد المولى الحسن الأول، بينما عائلة آل الجامعي التي ضمنت ولاء قبيلة ولاد جامع للسلاطين العلويين، أرادت الحفاظ على نفس مكانتها السياسية والمخزنية مع السلطان الحسن الأول عندما وصل إلى الحكم.
لكن الصراع بين باحماد، ابن الحاجب، مع آل الجامعي، سيما ثلاثة وزراء من أبنائهم، أدى إلى اعتقال آل الجامعي والانتقام منهم وسجنهم وإبعادهم عن الوزارة، بل إنه اتهمهم بالاختلاس وخيانة الأمانة، وهي اتهامات كانت جاهزة عند باحماد وألحق بها أضرارا كبيرة بعائلة الجامعي، بلغت حد مصادرة أملاكها ومحاصرتها في منازلها. إذ إن بعض أبناء الجامعي، وكانوا أيضا مسؤولين كبارا في الدولة، فُرض عليهم أن يلازموا بيوتهم وألا يغادروها نهائيا إلا إلى المقبرة، وهو ما حدث فعلا.
انتقام الصدر الأعظم باحماد، الذي كان يُنظر إليه دائما على أنه مجرد ابن «الحاجب» ولن يصل أبدا إلى منصب الوزارة، شمل أيضا بعض زعماء القبائل الذين كانوا معروفين بصداقتهم مع آل الجامعي، خصوصا القبائل المحيطة بمدن فاس ومراكش. وأصبحت قبائل أخرى أكثر نفوذا، لأن زعماءها من أصدقاء الوزير القوي باحماد.
لكن المثير أن التهمة التي وجهها باحماد إلى آل الجامعي صارت تلاحقه أيضا، سيما عندما بنى داره الفخمة بالقرب من القصر الملكي، وأصبح يتلقى الهدايا من الأعيان والتجار وكبار رجال المخزن في مختلف مناطق المغرب، ولم يكن يخفى على أحد من محيط المولى الحسن الأول أن وزيره باحماد صار من الأغنياء، رغم أنه لم يكن ينتمي إلى أسرة غنية. وظلت هذه «الهمسات» تقال وراء ظهر الوزير باحماد، إلى أن دخل القصر الملكي سنة 1894، عائدا من رحلة مع المولى الحسن الأول، ولم يخبر أحدا أن السلطان فارق الحياة خلال الرحلة وعاد به إلى القصر لكي ينظم الجنازة، دون أن يفشي خبر موت السلطان في الموكب. ونصّب أصغر أبناء المولى الحسن الأول سلطانا للمغرب، وواجه الوزراء والقضاة والمستشارين والعلماء من جلساء السلطان، وأخبرهم أن السلطان أوصاه أن يُنصب ابنه عبد العزيز، ولم يجرؤ أحد على مخالفة رغبة باحماد الذي بقي في منصبه إلى أن مات مع بداية القرن العشرين، دون أن يعصف به أحد من منصبه.
الزعيمي.. العائلة التي عصفت بها حملة مخزنية للعقاب
في سنة 1891 كانت أسرة الزعيمي على صلة وطيدة بالمخزن في فاس، ثم في الرباط، حتى أن أحد أبنائها لم يكن يفارق الوزير التازي، وما أدراك ما الوزير التازي أيام المولى الحسن الأول، إلا لكي يلتقيه مجددا.
ماذا وقع لكي تلقى هذه العائلة مصيرا مأساويا، تمثل في مصادرة أغلب أملاكها؟
حسب ما تشير إليه بعض المراسلات المخزنية التي يوجد أرشيف أغلبها في الخزانة الملكية، فإن أبناء العائلة دعموا بعض وزراء الدولة للتأثير في القرارات المخزنية، وكانوا قد تلقوا ضمانات ووعود من وزراء لدى المولى الحسن الأول، ثم مع ابنه المولى عبد الحفيظ، ألا تتضرر تجارتهم أبدا، وأنه لا حاجة إلى الحصول على «باسبور» دولة أوروبية، كما فعل الكثيرون من أثرياء المغرب وأصبحوا محميين. وما زاد من طمأنة أبناء الزعيمي، أن السلطة انتقلت إلى الرباط عندما أصبح مولاي يوسف سلطانا للمغرب سنة 1912، وهو ما اعتبروه طمأنة لهم وزيادة في فرص اقترابهم من مظلة السلطة.
أحد الباحثين المغاربة الذين درسوا مسار عائلة الزعيمي، هو الباحث إبراهيم التادلي، الذي كان يشتغل في دواوين إدارات مخزنية، وأتيح له الاطلاع على الوثائق التي تتعلق بمراسيم وظهائر سنها المولى يوسف، وكانت وراء إصدار قرارات صارمة في الرباط.
وأعطى التادلي المثال بالحديث عن الأسر التي عرفت مصيرا «مخزنيا» دراميا، بأسرة الزعيمي. هذه الأسرة كانت كثيرة الأبناء، وكل واحد منهم عمل بجد على تنمية ثروته التي ورثها عن الجد الزعيمي، إلى أن أصبحوا يملكون إمبراطورية مالية حقيقية مع نهاية القرن.
حتى أن العائلة أصبحت تنقسم إلى فريقين. فريق يعيش في الرباط ويتزعمه الثري محمد الزعيمي، وفريق آخر يعيش متنقلا بين مدن مغربية كبيرة كمراكش وفاس والدار البيضاء، ويتحكم فيه الأب، أي والد محمد الزعيمي. وكانت هذه الأسرة قد انتقلت مع اقتراب الحماية الفرنسية وحلول القوات العسكرية الفرنسية في الرباط، إلى مدينة طنجة، لكي تبدأ في الاستثمار سنة 1911، في ميناء طنجة.
وتركت خلفها ممتلكات في الرباط، بينما قامت ببيع أخرى قبل رحيلها. لكن مصير الأسرة بعد الانتقال إلى طنجة بقي مجهولا. وهناك من رجح أن أفرادها هاجروا خارج المغرب بعد الأزمة المالية لسنة 1929 والتي تضرر منها الاقتصاد العالمي كثيرا، وكانت فرصة لانطلاق أثرياء آخرين نحو العالمية.
وكان فندق الحبشي شاهدا على عملية بيع ممتلكات هذه الأسرة، رفقة أسر رباطية أخرى. إذ كان هذا الفندق يتحول إلى مزاد علني بانتظام لبيع ممتلكات الأسر التي دار عليها الزمن دورته، أو الأسر التي كانت ترغب في الانتقال من الرباط، خصوصا خلال الأزمات التي كانت تضرب في عمق المدينة بين الفينة والأخرى.
وهناك اليوم في أرشيف الرسائل المخزنية، رسائل من ابن الزعيمي يتحدث فيها باسم الأسرة في علاقته وبعض إخوته بالمخزن، لتبقى آخر الآثار على مجد الأسر الرباطية «المُختفية».
اعبابو.. «ثري» لاحقته تهمة الفساد وعاقبه محمد الخامس
فور وصول السلطان محمد بن يوسف، الملك محمد الخامس لاحقا، إلى الحكم سنة 1927، حتى رُفعت إليه شكايات بشأن بعض المقربين من والده الراحل مولاي يوسف. وكان اسم واحد يتكرر في أغلب تلك الشكايات، وهو اسم التهامي اعبابو.
لكن أولا، قبل أن نصل إلى المصير الذي لقيه التهامي، الذي كان أكبر من وزير وأقرب للمولى يوسف من مجرد مستشار، لا بد أولا أن نقف على أجواء وفاة مولاي يوسف، وانتقال السلطة إلى ولده محمد بن يوسف. ولا يوجد أفضل من عبد الوهاب بنمصور، مؤرخ المملكة، لوصف تلك الأجواء، خصوصا وأنه بفضل منصبه مؤرخا للمملكة وأحد الثقاة الذين تعامل معهم الملك الراحل الحسن الثاني، فقد كان بإمكانه الاطلاع على أرشيف ثمين من الرسائل المخزنية، مكنته من معرفة بعض الكواليس المتعلقة بظروف سنة 1927. يقول: «أصيب السلطان مولاي يوسف بعلة البروستات في آخر حياته، وبدأ وجعها يشتد عليه في صيف عام 1927، فبدا له أن يخرج من الرباط التي كان يتأذى من رطوبتها، سيما في شهر شتنبر الذي هو أسوأ شهورها طقسا، وينتقل إلى دار المخزن بفاس التي ولد بها ونشأ وتولى الخلافة عن أخيه السلطان عبد الحفيظ قبل أن يصبح ملكا، وكان مرضه يتزايد ويقوى كلما توالت الأيام، حتى وافاه أجله صبح يوم الخميس 22 جمادى الأولى عام 1346 هـ (17 نونبر سنة 1927م)، وخلال الأسابيع التي سبقت وفاته كان وزراء مخزنه ورجال حاشيته يفكرون فيمن يلي الملك من بعده، وانقسموا وهم يتخافتون بذلك إلى فريقين، فريق يتزعمه الحاجب السلطاني السيد التهامي اعبابو، وهذا الفريق كان يرى أن الأحق بالملك هو أكبر أبناء السلطان سنا، وكان هو الأمير مولاي إدريس بن يوسف، الخليفة السلطاني بمراكش، وفريق ثان يتزعمه الصدر الأعظم الحاج محمد بن عبد السلام المقري، وخليفة مدير التشريفات السلطانية الفقيه السيد محمد المعمري الزواوي، وكان إلى جانب هذا الفريق بعض كبار الموظفين الفرنسيين، وهذا الفريق كان يرى أن استحقاق الملك لا يكون بالسبق في الولادة والأقدمية في السن، وإنما يكون بتوفر مؤهلات بدنية وفكرية فيمن يتولاه حتى ولو كان أصغر إخوته، وكانت المؤهلات كلها متوفرة في الأمير الصغير سيدي محمد بن يوسف».
ورغم أن السلطان الشاب وصلته رسائل تشتكي من نفوذ التهامي اعبابو وشككت في مصادر ثروته، إلا أن محمد بن يوسف لم يرد أن يُحدث زلزالا بمجرد وصوله إلى السلطة، خصوصا وأنه كان يدرك وجود تيار من المخزنيين الذين راكموا ثروة هائلة أيام المولى يوسف، واستفادوا كثيرا من انتقال السلطة من فاس إلى الرباط.
حدثت تراكمات مهمة، سيما وأن اعبابو لم يكن يخفي صداقة وطيدة نشأت بينه وبين بعض رجال الأعمال الفرنسيين وموظفين كبار في الإقامة العامة الفرنسية. وبحكم أنه لم يعد يمسك بين يديه سلطات كثيرة من السلط التي كان يفوضها إليه السلطان مولاي يوسف قبل وفاته، فقد صار سهلا رصد ثروته وعلاقاته، وكانت صدمة المخزنيين كبيرة عندما اكتشفوا أن التهامي اعبابو يملك عقارات كثيرة في منطقة الحبوس في الدار البيضاء، لا تبعد كثيرا عن القصر الملكي، علما أنها كانت سابقا في ملكية الأحباس. وهنا تحرك السلطان محمد بن يوسف لكي يعاقب اعبابو ويصادر ممتلكاته، خصوصا بعد ما تأكد فعلا أنه راكم ثروة ضخمة جدا في فترة اشتغاله في القصر الملكي. وتحدثت مصادر من أرشيف الصحافة الفرنسية في المغرب، أن السلطان محمد بن يوسف أحال اعبابو على المحكمة للنظر في الاتهامات التي وُجهت إليه وتحديد العقوبة المناسبة، لكن كبار المسؤولين الفرنسيين في الرباط طلبوا من السلطان أن يسمح لاعبابو بالمغادرة، وهو ما استجاب له السلطان، لكن مع شرط مصادرة كل أملاك اعبابو، خصوصا منها التي كانت في ملكية الأحباس قبل أن يحوزها. وكانت قصة التهامي واحدة من أقوى حملات التطهير التي باشرها السلطان محمد بن يوسف في شبابه.
قصة احتفاظ المقري بأختام محمد الخامس
دائما في إطار قرارات السلطان محمد بن يوسف بعد وصوله إلى الحكم سنة 1927، فقد ورث عن والده، وزيرا قويا هو الحاج المقري. هذا الوزير وُصف بأنه أكثر المعمرين في الوزارة، في تاريخ المغرب. ووجهت إليه اتهامات كثيرة وصلت حد الاتهام بالخيانة سنة 1955، وصودرت ممتلكاته في السنة نفسها وغادر المغرب صوب فرنسا.
وهنا، يورد عبد الوهاب بن منصور، مؤرخ المملكة، تفاصيل غاية في الأهمية تتعلق بوظيفة الحاج المقري ومدى صحة ما راج عن أنه كان مُؤتمنا على خاتم السلطان للتوقيع على الظهائر.
يقول مؤرخ المملكة عبد الوهاب بن منصور في مذكراته متحدثا عن الملك الراحل محمد الخامس ووزيره المقري: «اغتنمت فرصة سمري مع جلالته، مساء يوم الخميس 5 جمادى الأولى عام 1377 هـ (28 نونبر 1957م)، بأحد فنادق مدينة وليام سبورغ التاريخية خلال زيارته إلى الولايات المتحدة، فسألته بأدب ورفق عن قضية الظهير البربري، فأجاب رحمه الله باقتضاب أن كل شيء كان يومئذ بيد الفرنسيين، فاستحييت أن أسأله مزيدا من التوضيح والتفصيل، لأن الجواب كان يفي على قصره كل ما أريد أن أعرفه، ومع ذلك بقيت قضية وضع الطابع السلطاني على ظهير خطير مثل الظهير البربري تراود فكري وتتلجلج في صدري، واتفق منذ نحو عشر سنين أن أوفدني جلالة الملك الحسن الثاني إلى فرنسا للقيام بمهمة كان من المقرر أن يصحبني فيها إلى كورسيكا السفير السيد عبد القادر الجاي الذي كان يومئذ وزيرا مستشارا بسفارة المغرب في فرنسا، ولما كنت في مطار مرسيليا وجدت في استقبالي عند نزولي من الطائرة السيد (لوسيوني)، الذي كان مديرا للأحباس في عهد الحماية، ثم صار بعد التحرر منها مستشارا قانونيا لجلالة الملك، فاستضافني وأكد علي أن أقضي الليل معه في منزله الكائن بقرية (ميروي)، القريبة من مدينة (إيكس أون بروفانص)، ولما كنا نتسامر في الليل بعد العشاء، أثار كلانا بعض الوقائع والأحداث التاريخية التي طبعت أكثر من غيرها سياسة فرنسا بالمغرب أثناء سنوات الحماية، وكان من بينها سياسة فرنسا البربرية التي بدأ تطبيقها تدريجيا سنة 1914، يوم كان المارشال ليوطي ممثلا لفرنسا بالمغرب، وبلغت أوجها سنة 1930 بصدور الظهير البربري يوم 16 ماي، وأشد ما كانت دهشتي عندما رأيت السيد يوسيوني – شمله الله بعفوه – يقطع الكلام وينهض منتفضا كالمحموم – وكان قصير القامة – ويذهب إلى مكتبه، ثم يأتي منه بإضبارة فتحها وأطلعني على ما فيها، فإذا الذي فيها محاضر الاجتماعات التي كانت تجري في الإقامة الفرنسية العامة لتحضير الظهير البربري والنصوص التنظيمية التي ستصدر لتطبيقه، ولم يكن في هذه المحاضر – كما أكد لي هو بنفسه وكان من شهود العيان – ما يدل على أن السلطان استشير، أو أن المخزن أخذ رأيه أثناء إعداد نصوصها، فازددت اقتناعا بأن الفرنسيين هم وحدهم صانعوها، والمتحملون لأوزارها.
وعلى ذلك، بقيت قضية وضع الطابع السلطاني على الظهير البربري لا تعزب عن بالي، حتى جاءني في هذا الأسبوع أحد الأصدقاء بوثيقة ذات أهمية كبرى مكتوبة بخط وزير العدلية الأسبق، السيد محمد بن عبد السلام الرندة، وصف فيها وفاة السلطان مولاي يوسف، ومبايعة ابنه سيدي محمد الخامس ورجوعه من فاس إلى الرباط، ومسائل أخرى، فانقشعت بقراءتها كل الغيوم المتعلقة بطبع الظهير البربري، وها أنا ذا أنقل في ما يلي من هذه الوثيقة أو (التقييد) ما يتعلق بصنيدق الطوابع السلطانية، واحتفاظ الصدر الأعظم الحاج محمد المقري بمفتاحه باتفاق مع الفرنسيين، وتصرفه في الأختام الملكية طيلة السنوات الخمس الأولى من عهد الملك المجاهد المرحوم».