أقدم التقارير التي دقت ناقوس الخطر الصحي بالمغرب
عندما تفجرت قضية زيوت مكناس المسمومة سنة 1959، تفجرت معها وضعية القطاع الصحي لأول مرة بالمغرب. خصوصا أن الأطباء الذين كانوا يشتغلون بالمستشفيات المتوفرة وقتها، كانوا عاجزين عن تشخيص حالات التسمم وأسبابها المباشرة، لولا اللجنة الأجنبية التي حلت وقتها لنفس الغرض.
لم يكن المشكل مرتبطا بالأطر، بل كان يتجلى تحديدا في ضعف الإمكانيات الطبية بالمغرب عموما، وعجز أطباء فرنسيين كانوا يشتغلون بالمغرب، عن مواكبة حالات صحية مستعصية. وهو ما كان يشكل عقبة أمام استشفاء مئات الحالات التي لم يكن الطب بالمغرب، قادرا على توفير سبل العلاج لها.
لماذا تعيش المستشفيات على إيقاع التوتر؟
هي خلاصة لما وقع في مغرب نهاية الخمسينات مرورا إلى سنوات الستينات، حيث كان قطاع الصحة يشهد توسعا على غرار التوسعات الأخرى التي شهدتها القطاعات العمومية. ولم يكن أمر الإشراف على القطاع حكرا على الفرنسيين وحدهم كما كان عليه الأمر خلال سنوات الأربعينات، بل بدأت أولى بوادر اشتغال المغاربة في قطاع الصحة، متمثلة في بداية التحاق بعض الأطر المغربية المتعلمة، كمساعدين لأطباء فرنسيين، فيما تدرب آخرون على التمريض والاشتغال لصالح أطباء فرنسيين في عيادات خاصة، وهو ما منحهم تكوينا مهما في العلاج. هذا دون الحديث عن أول فوج مغربي شكّل بعثة إلى فرنسا لدراسة الطب، وعاد منه، بعد سنوات التكوين، أطباء مغاربة شكلوا النواة الأولى للأطباء الذين سيمسكون زمام الأمور بالمستشفيات العمومية، على قلتها، فور بدء الفرنسيين مغادرة المؤسسات المغربية.
اليوم، يخرج الطلبة الأطباء إلى الشارع منددين بقرار الوزير الحسين الوردي، معتبرين أن إيجاد حل لأزمة الصحة بالمغرب لن يكون على حسابهم. هؤلاء قالوا ألا مشكل لديهم للاشتغال في المناطق النائية مشترطين أن يتم اعتبارهم موظفين رسميين، مخافة أن يعانقوا البطالة بعد انتهاء المدة الرسمية للخدمة التي ينادي بها الوزير.
خصاص مهول في الأطباء، تقابله بطالة واسعة في صفوفهم. وهو الأمر الذي يدق ناقوس الخطر، للتعجيل بإيجاد حل لقطاع عاش كثيرا من التحولات.
من يتحمل مسؤولية تردي الخدمات الصحية بالمغرب؟
لا أحد سينكر أن أشياء كثيرة تغيرت، لكن أمورا أخرى ظلت على حالها، بل تردت أكثر من السابق أمام ازدياد الكثافة السكانية وعدم تحسن الخدمات الصحية في كثير من المستشفيات العمومية.
الغرب فطن مبكرا لحساسية وأهمية وزارة الصحة حتى قبل أن يتم إحداثها. وإليكم هذا المقطع من لقاء بين صحفي من جريدة التايمز البريطانية سنة 1909، والمولى عبد الحفيظ خلال الأشهر الأولى لتوليه الحكم. جاء في نص الحوار على لسان المولى عبد الحفيظ وهو يرد على سؤال يتعلق برؤيته السياسية ومستقبل التعامل مع الدبلوماسيين الأجانب، وما إن كان صحيحا أنه سيقطع علاقاته مع الغرب بشكل عام. يقول في الجواب: «عندما جاء إلي الرجلان الإنجليزيان إلى فاس وطلبا الحصول على منصبين في حكومتي، لم أرفض طلبهما، وأبعدت الفرنسيين والألمان ووضعت الإنجليزيين مكانهم. جاء أيضا دكتور إنجليزي، وعينته طبيبي الخاص، ولم أسأله شيئا. الألمان أرسلوا لي الدكتور فاسيل، واعترفوا بي كسلطان للمغرب، لكنني أفضل الطبيب الإنجليزي اعتبارا لمكانة بريطانيا».
ألمانيا أرسلت فعلا طبيبا خاصا للمولى عبد الحفيظ فور وصوله إلى الحكم، مجاملة منها للسلطة الجديدة بالمغرب، لكن البريطانيين كانوا قد سبقوها لوضع طبيب خاص رهن إشارة القصر.
وحدث أيضا أن طبيبا للأسنان كان ضيفا مبكرا على السلطة بالمغرب، وكان زبناؤه من علية القوم، وقد تحدث كثيرا عما أسماه كارثة حقيقية اجتاحت أسنان المغاربة الذين لم يكونوا يعلمون أي شيء عن التطور العلمي الحاصل في طب الأسنان. وقد قال هذا الطبيب إن بعض الأعيان المغاربة، وكان منهم رجال في الوزارات والمخزن، كانوا يحتفظون بالشمع اعتقادا منهم أن تقطيره على الأسنان سيسكن الألم.
إذا كان هذا حال علية القوم أو نخبة المجتمع المغربي، فلا شك أن وضعية صحة المغاربة قد كانت موضوع كتابات كثيرة أيضا.
يضم الأرشيف الفرنسي بالمغرب، حزمة من الوثائق التي تؤكد أن فرنسا كانت تخوض حملات موسمية لتلقيح عام للمواطنين في المناطق التي يعيش بها فرنسيون، مخافة انتشار الأمراض المعدية. لكن الطريقة التي كانت تتم بها عمليات التلقيح كانت غريبة للغاية، إلى درجة أن البعض فضلوا عدم الاستفادة من العلاج المجاني، خصوصا الذين كانت لديهم مواقف معادية للوجود الفرنسي بالمغرب.
بالإضافة إلى أن عمليات «تعقيم» جماعي كانت تقام بالمدارس العمومية، حيث تقام صفوف طويلة من التلاميذ ويتم رشهم بأدوية ضد الطفح الجلدي والأمراض المعدية.
بعد ذلك، خلال سنوات الخمسينات، كان الراديو يشكل وسيلة مؤثرة للقيام بحملات صحية باشرتها وزارة الصحة المغربية في سنواتها الأولى، وكانت أغلب الحملات تدعو المواطنين والمواطنات إلى الاستفادة من اللقاح المجاني ضد الأمراض، وبعدها أصبح إلزاميا على الأسر أن تُخضع المواليد الجدد للتلقيح في المستشفيات العمومية والمدارس الابتدائية.. وكانت النتيجة استفادة أغلب المغاربة في المناطق الحضرية وبعض القرى، من تلقيح مجاني ساعد على التخفيف من حدة الأوبئة الموسمية التي كانت تحصد في السابق مئات الأرواح.
آلاف الضحايا كانوا يرحلون عن الحياة سنويا بالمغرب. ليس في الأمر أي مبالغة، ويكفي الرجوع إلى دراسة جامعية جمعها صاحبها في كتاب أسماه تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب، وفيه جرد واضح وبالأرقام التي وفرتها روايات تاريخية أو ما دونه مؤرخون مغاربة رسميون، يعطي أرقاما كبيرة عن ضحايا الأوبئة في المغرب لأزيد من مائة سنة، والحصيلة كانت أن مئات آلاف المغاربة رحلوا عن الحياة بسبب الأمراض المعدية التي لم يكن يتطلب القضاء عليها إلا تمكين المواطنين من لقاح بسيط.
من الصعوبات التي عاشها قطاع الصحة أيضا بالمغرب، ما وقع لعمال المناجم المغاربة الذين اختاروا العودة إلى المغرب نهائيا بعد الحرب العالمية الثانية. هؤلاء كانوا يحملون في صدورهم أمراضا معدية بسبب ظروف العمل التي عاشوها في المناجم واحتكاكهم بالمواد السامة والغازات التي يكون لها أثر رجعي على الصحة عموما. هؤلاء بعد تقاعدهم بالمغرب، أصيبوا بأمراض خطيرة، لكن القطاع الصحي في المغرب لم يكن بعد قد وفر خدمات طبية لاحتضان حالاتهم، وهو ما جعل الكثيرين منهم يعانون على فراش المرض، فيما كانت القلة فقط قادرة على التنقل إلى فرنسا للخضوع للعلاج.
بعض الحالات وجدت في أطباء فرنسيين اختاروا البقاء في المغرب بعد الحصول على الاستقلال، عونا كبيرا على تشخيص الأمراض التي كانوا يعانون منها، وبعضهم انتقلوا إلى فرنسا لاستكمال العلاج، نظرا لأن وزارة الصحة المغربية لم تكن قد وفرت بعدُ تجهيزات للكشف على أبسط الأمراض.
خلال سنوات السبعينات، كانت الحكومة المغربية قد أطلقت حملات واسعة لتجديد معدات المستشفيات العمومية، وكانت صفقات عمومية لجلب الأدوية إلى المغرب موضوع انتقاد كبير من طرف المعارضة وقتها. هذه الأخيرة شككت في أن بعض المحسوبين على الحكومة قد تاجروا في تلك المعدات، وراكموا ملايين الدراهم من خلال السمسرة في المعدات التي صُرفت ميزانيات كبيرة لتوفيرها، وسوق الأدوية أيضا.
لكن النقاش وقتها ظل حبيس البرلمان، وكتبت صحف المعارضة منتقدة التجاوزات التي طالت عمليات توفير التجهيزات وتوفير الأدوية، وانتقدت أيضا انتشار الرشوة على أبواب المستشفيات.
لكن وصول المعارضة إلى الحكومة، لم يكن يحمل أي جديد لقطاع الصحة في المغرب، حتى بعد 1998، حيث أن المؤشرات العالمية لتصنيف الخدمات الصحية، ظلت تحفظ للمغرب رتبة متدنية مقارنة مع الدول التي تقدم خدمات صحية لمواطنيها.
لا بد أيضا من الرجوع إلى وضعية القطاع الصحي بالمغرب قبل أن توجد وزارة الصحة، وسيكون من الغريب أن تلمس كيف أن وضعية الصحة بالمغرب تأثرت كثيرا بالسياسة، وأن حملات صحية كانت عسكرية بالأساس. وأن القطاع شهد تحولات كبيرة، لكن الوضع يحتاج فعلا إلى كثير من التأمل. ما يقع اليوم بين وزير الصحة والطلبة الأطباء، ليس إلا وجها من أوجه المخاض الذي مرت وتمر منه الوزراة الوصية، بعد أن عاشت مراحل أخرى كانت وراء تأسيس «وزارة الصحة».
قصة وزارة الصحة والواقع الصحي الأسود
كان واضحا فور حصول المغرب على الاستقلال أن الدولة لم تكن تملك ميزانية كافية لإقامة دعائم وزارة للصحة في مستوى تطلعات الشعب المغربي. لكن الجهود كانت منصبة على استغلال ما اشتغلت عليه الإدارة الفرنسية، كنواة أولى للمستشفيات.
من بين الدراسات الفرنسية التي اهتمت بالقطاع الصحي بالمغرب، نجد واحدة تعود لسنة 1929، تقول إن الجمهورية الفرنسية ترى أن من المناسب أن تنكب على تشييد مستشفيات حتى يتردد عليها الرعايا الفرنسيون خصوصا في الدار البيضاء والمدن الكبرى التي تشكل مصدر جذب لاستقرار الفرنسيين بالمغرب. وكان النقاش وقتها أن تقام البنى التحتية الضرورية لتشجيع الفرنسيين على الاستقرار بالمغرب.
وقبل أن تبدأ الإدارة الفرنسية في التفكير لتوفير الخدمات الصحية بالمغرب بعد معاهدة الحماية سنة 1912، كان هناك بعض الأطباء الفرنسيين ممن استقروا بالمغرب، وجعلوا محلات سكناهم، مصحات مؤقتة لاستقبال الحالات التي كانت تستدعي تدخلا طبيا، وكانت منازلهم أيضا تحتوي بالضرورة على خزانة خاصة بالأدوية، وأدوات الإسعافات الأولية، لكن تبقى هذه الأمور مجرد محاولات خجولة لتوفير الحد الأدنى من ضروريات الاستشفاء، إلى أن قررت الإدارة الفرنسية بدء أولى عمليات إدخال الأدوية والمعدات الطبية لإنشاء المستشفيات بمفهومها العصري.
بالعودة إلى الحكومة المغربية الأولى، فقد غاب عن الواقفين في الصورة التذكارية التي تؤرخ لتنصيبها وزير الصحة، لكنهم تداركوا الأمر فور أول تعديل حكومي في تاريخ المغرب، وأصبح لدينا طبيب يهودي مغربي، وزيرا للصحة. لكن الأخير لم يكن قادرا على بدء ورش حقيقي لإصلاح القطاع الصحي بالمغرب، لأن الدولة لم تكن تتوفر بعد على ميزانية تكفي لدعم مشاريع بناء المستشفيات. وهكذا تم التركيز في البداية على استغلال الأطر الطبية الفرنسية، وجعل المغاربة ينفتحون على الطب كمساعدين للأطباء في انتظار أن تتكون نخبة مغربية كافية، من حيث العدد، لرسم الملامح الأولى لوزارة الصحة المغربية.
التحديات كانت كبيرة جدا خلال الخمسينات. وتبقى الدعوة الوطنية للتلقيح خلال نفس الفترة، واحدة من أولى العمليات التي باشرتها وزارة الصحة في نسختها المغربية، لتعميم التلقيح ضد الأمراض المعدية على أكبر نسبة ممكنة من المواطنين. وتم الأمر بطبيعة الحال بإشراف أطباء فرنسيين وممرضات أجنبيات. بالإضافة إلى مغربيات كن قد اكتسبن خبرة كبيرة من خلال الاشتغال مع أطباء فرنسيين، وهو ما أهلهم فيما بعد ليصبحوا أطرا في وزارة الصحة بعد مغادرة الفرنسيين لها.
كان تحدي اللقاح، من أول الامتحانات التي واجهتها الحكومة المغربية في القطاع الصحي، رغم أنها لم تنجح في تعميمه على مناطق كانت تعاني نقصا مهولا في التجهيزات الطبية، ولم يكن أمر إقامة مستشفيات بها مطروحا للنقاش.
وهو ما ترتب عنه دخول المغرب مراحل حرجة، أودت بحياة الكثيرين والسبب كان تفشي الأمراض المعدية، وضعف الاستعدادات التي يفترض أن تكون مقاومة لها. ولعل أشهرها بعد الاستقلال، كان تفشي الأمراض الجلدية والتي شكلت خطرا على سكان بعض المدن، رغم المجهودات التي بذلت للحد من انتشار الوباء. وتوجد إشارة لهذا الأمر في عدد من المراجع التاريخية التي كتبها مغاربة تعليقا على الوضع العام بالمغرب خلال القرن الماضي. مما جعل الأحوال لا تختلف كثيرا عما كان عليه المغرب قبل الحماية الفرنسية.
عندما التصقت بالأطباء والممرضات تهمة «التنصير»
لا يزال هناك، إلى اليوم، بعض المتطوعين الأجانب الذين يتركون الامتيازات في بلدانهم، ويختارون «التطوع» لقضاء أشهر، قد تمتد لسنوات، في مناطق معزولة بالمغرب، والقيام بأعمال خيرية أولها التطبيب المجاني لسكان تلك المناطق.
الظاهرة ليست وليدة اليوم، لأن أصولها تعود إلى الفترات التي كان فيها قطاع الصحة غير ممكن في نسخته المغربية. وهو ما يفسر تذكر الكثيرين ممن عاشوا سنوات الحماية الفرنسية، وجود راهبات فرنسيات يقمن بأعمال التمريض. «النصارى» كانوا يشتغلون في مراكز استشفائية، صارت مستشفيات ما دامت تقدم خدمات طبية مجانية استفاد منها المغاربة بجميع شرائحهم الاجتماعية.
في مذكراته، يروي عالم اجتماع بريطاني، ألّف كتابا عن الحياة في الريف بالمغرب رفقة زوجته التي عاشت معه التجربة، ويقول إن «قبيلة آيت واراغ» والتي أصبح الكتاب يحمل اسمها، كانت تعيش على إيقاع الفقر والعوز خلال سنوات الثلاثينات، وكان لا بد أيضا أن يتطرق إلى غياب الخدمات الصحية، ووصف في كثير من الأحيان المخاطر التي تهدد الحياة اليومية للسكان.
أحد الباحثين الأمريكيين في تاريخ الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ألف كتابا سنة 1986، كان عبارة عن دراسة تحليلية لكتاب قبيلة آيت واراغ، يقول فيها إن من الممكن إنجاز تقرير شامل عن وضعية قطاع الصحة بالمغرب، اعتمادا على المذكرات والرحلات التي ألفها أصحابها أثناء زيارتهم للمغرب، ويذكر في فقرات كثيرة أن العلاقة بين الأطباء الأجانب والمغاربة، كانت دائما موضوع توتر.
في ما يلي يقول: «لا بد أولا أن أشير إلى أن الطب العربي كان متفوقا في فترة من الفترات، لكن تردي الخدمات الصحية في المغرب لم يكن مرتبطا بتأخر العلوم بقدر ما كان مرتبطا بالوضع العام للبلاد وانتشار الأمية في صفوف السواد الأعظم من المغاربة، ما بين 1900 و1960 أي السنوات الأولى لرفع فرنسا يدها عن المغرب. اطلعت على نصوص قديمة لفرنسيين وجنسيات أخرى، يذكرون فيها أنهم كانوا يوزعون الدواء على الناس، وكانوا يتأثرون لرؤيتهم يتحسنون بشكل سريع. بعضهم كانوا يقدمون الهدايا عربونا على الشكر والامتنان، خصوصا وأن الأدوية التقليدية التي كانوا يتناولونها لم تكن تجدي نفعا. فيما آخرون كانوا متوجسين، مخافة أن تكون تلك الأدوية التي يقدمها لهم الأجانب، سموما قد تقتلهم في أي لحظة.
تضميد الجروح، وتنظيف التعفنات بالمطهرات، عمليات بسيطة لا تحتاج من الباحث أو المستكشف أن يكون طبيبا أو ممرضا مكونا، بل تحتاج إلى وعي بسيط، وهذا الأمر شكل مكسبا كبيرا للكثيرين وجعلهم محبوبين بين السكان. لكن في بعض الحالات، كان هؤلاء يواجهون تهمة كبيرة تتعلق بنشر الديانة المسيحية في صفوف الأهالي، وهو الأمر الذي لم يكن يعجب الفقهاء، حتى أن بعضهم دعوا الناس إلى مقاطعتهم وعدم استخدام الأدوية التي يوزعونها، وأن الموت أهون من تلقي العلاج وتعاليم المسيحية».
توزيع الإنجيل كان نشاطا معروفا في كثير من المناطق، لكن الأكيد أن الأطباء لم يكونوا يشتركون جميعا في تلك التهمة، بما أن الدعوة إلى دين آخر ممنوعة تماما. الراهبات أيضا تعرضن لحملات تدعو إلى مقاطعتهن، لكن حاجة الأهالي للعلاج، وأحيانا كثيرة إلى المأوى والمأكل والمطعم والملبس، كانت تؤثر على علاقتهم بالراهبات والممرضات الأجنبيات اللواتي اخترن قضاء سنوات طويلة في المغرب، حتى أن بعض المناطق، اشتهرت في ما بعد بأسماء الراهبات والأطباء الذين قضوا بها سنوات طويلة وغادروها في الأخير.
مستكشفة تدعى السيدة واتسون، وهي بريطانية الجنسية، ألفت كتابا عن رحلة قامت بها إلى أزيد من عشرين بلدا إفريقيا خلال سنوات الخمسينات، واستغرقت منها الرحلة عشر سنوات كاملة. تقول: «في المغرب، وبالضبط في جبال الأطلس الكبير، وجدت منازل من الحجارة تختلف في بنائها عن بقية المنازل المحلية. أخبرني الناس هناك أن تلك المنازل كانت مأوى لعدد من الفرنسيين الذين أقاموا بها أزيد من ثلاثين سنة، لكنهم غادروها خلال الأربعينات عندما تعرض أحدهم للتصفية الجسدية على يد بعض الثوار في الجبال ممن كانوا يعادون الوجود الفرنسي في المغرب. عرفت أيضا أن هؤلاء كانوا يرتدون لباس الرهبان، ويزهدون في الحياة بشكل عام، واختاروا أن يودعوا بريق الحياة في باريس ويستقروا في أفقر القرى المغربية. قالت لي سيدة مسنّة إن هؤلاء الفرنسيين كان لهم فضل كبير في شفاء عدد من المرضى، وأخبرتني أيضا أن مرضا غريبا كاد يبيد جميع من بالقرية، لكن دواء وزعوه على السكان كان له فضل كبير في مغادرة جميع المرضى للفراش لتنتهي العدوى في أقل من أسبوع. لكن الغريب أن الكثيرين كانوا سعداء لأنهم غادروا المنطقة بعدما قُتل واحد منهم على يد المقاتلين..».
هكذا ضاعت الصحة وتراجعت الخدمات الصحية بسبب السياسة
نقرأ يوميا عن سوء الخدمات الصحية في المستشفيات العمومية، وتردي جودة العلاج وافتقار مناطق كثيرة لمستوصف بسيط، فما بالك بمستشفى متعدد التخصصات، رغم أن عقودا طويلة مضت، تلقى خلالها المغاربة وعودا كبيرة بتمكينهم من العلاج والتطبيب المجاني. لكن الواقع يحمل حقائق أخرى تتمثل في اضطرار الكثيرين إلى الانتظار أمام أبواب المستشفيات العمومية لأنهم لا يتوفرون على ثمن العلاج، أو أن معدات الكشف معطلة.. فماذا وقع؟
خلال سنوات الستينات، كان الملك محمد الخامس في آخر سنة لحكمه، متفائلا بشأن تطوير قطاع الصحة بالمغرب، خصوصا وأنه دشن مجموعة من المستشفيات، وكلف وزير الصحة وقتها، خلال سنة 1959، بتشجيع مزيد من الشبان المغاربة على دراسة الطب بالخارج وتمكينهم من منح طيلة سنوات الدراسة الطويلة.
وبمجيء حادث زلزال أكادير سنة بعدها، كان المغرب أمام كارثة إنسانية حقيقية، حتى أن المساعدات الأجنبية تمثلت في سيارات إسعاف وخيام لنصب مستشفيات متنقلة، لتوفير العلاج لأكبر قدر ممكن من المرضى والناجين. كما أن التخوفات من انتشار أوبئة كثيرة وسط الركام، جعلت وزارة الصحة وقتها تعيش تأهبا كبيرا رغم أن القسط الأكبر من المساعدات تكفلت به منظمات إنسانية، ومن جديد كانت هناك ملاحظات بخصوص نشاط فرق وجمعيات مسيحية في إيواء الضحايا وتقديم العلاج، بل والبحث عن إمكانية تبني بعض الأطفال الذين فقدوا ذويهم، وتم ترحيل الكثيرين فعلا.
بعد ذلك بدأت الدولة مع منتصف الستينات سياسة أخرى تهدف إلى بناء عدد من المستشفيات، لكن الوضعية العامة للصحة بالمغرب ظلت حبيسة صعوبات تنظيمية، كانت تختلف حدتها بين ولاية وزارية وأخرى، وهو ما نتج عنه تردي الخدمات الصحية بالمغرب، حسب تصنيف المنظمات العالمية، حيث جاءت المستشفيات المغربية في رتب متدنية.
كيف استعمل قطاع الصحة ورقة ضغط ضد المغرب؟
في كتاب «صور عن الحياة بالمغرب» تتحدث صاحبته كاثلين بليديل، كما يبدو من العنوان، عن صور كثيرة للواقع المعيش للمغاربة خلال فترات مبكرة من تاريخ المغرب. وتقول إن المغاربة عموما لديهم أدوية ناجعة لأغلب الأمراض، لكنهم كانوا يقفون عاجزين أمام الأوبئة والمجاعات، والتي كانت تتزامن فيها أمراض كثيرة في وقت واحد وتنتشر بسرعة في صفوف السكان ماداموا لا يتوفرون على تلقيح ضدها.
هذا المعطى كان وحده كافيا لكي يبدأ دبلوماسيو الإنجليز والفرنسيين أيضا، مباحثات لتقوية بسط النفوذ في المغرب، قبل أن تظفر به فرنسا. ورقة الضغط كانت هي تردي قطاع الصحة. وعرض بعض الإنجليز على القصر، أيام المولى عبد الحفيظ، تقديم خدمات صحية للمغاربة مقابل تمتيعهم بمزيد من الصلاحيات داخل البلاد، وهو ما أثر حنق الفرنسيين الذين سارعوا إلى بعث فريق من الأطباء ليستقروا بمدينة الدار البيضاء منذ 1904. بالإضافة إلى فرق طبية عسكرية أخرى، كانت تقيم معسكرات لتقديم العلاج المجاني للناس في الأسواق الأسبوعية داخل منطقة الأطلس، وبقيت هذه العملية تقليدا فرنسيا أقيم في أكثر من مناسبة حتى بعد فرض الحماية على المغرب.
لم يكن الأمر عطفا فرنسيا، بقدر ما كان إجراء احترازيا لضمان السلامة الصحية للجنود الفرنسيين عند اختلاطهم مع السكان.
وعلى امتداد العقود التي كان بها الوجود الأجنبي بالمغرب قويا، كانت هناك حملات طبية أجبر المغاربة على الاستفادة منها حتى تتحكم فرنسا في انتشار الأوبئة التي كانت تهدد السلامة الصحية لرعاياها الفرنسيين وليس المغاربة فقط. وليس الفرنسيون وحدهم من كانوا يتخوفون من تردي الخدمات الصحية بالمغرب، بل حتى الأجانب الآخرين. وهنا صورة واضحة عن التخوفات التي عاشها مواطن بريطاني أقام بمدينة فاس التي كانت قبلة مفضلة لمئات البريطانيين منذ نهاية القرن 19 وما بعده. يقول: «كان البيت مكونا من طابقين في كل طابق أربع غرف تطل على حديقة واسعة يتوسطها خزان كبير للمياه. غرفة الجلوس كانت محاذية للمدخل، بالإضافة إلى ثلاثة غرف صغيرة مستعملة للمطبخ والمكتب. خزان المياه كان مزودا بقنوات تصله مع مجاري المياه الجوفية القادمة من النهر مخترقة المدينة بمنازلها وصولا إلى أسفل المدينة. الماء لم يكن صحيا بالمرة، خصوصا وأنه يعبر قنوات كثيرة في مختلف أحياء فاس. مذابح الماشية بنيت على مشارف النهر، وكانت الحيوانات الميتة تلقى فيه دائما.
بعد وقت قصير من انتقالي إلى المنزل الجديد، أصبت بنوبة إسهال حادة، واكتشفت أن السبب هو المياه التي كان يزودنا بها الخادم، والتي كان مصدرها الخزان الذي يملأ بالماء الذي تحدثت عن مصدره سلفا.
كان لدي تخوف كبير من الإصابة بأمراض من قبيل الكوليرا والتفويد، وهي أمراض كانت منتشرة في فاس، وبإمكانها أن تمحوني من الوجود تماما.
نظام التجفيف في فاس كان يحتاج إلى إعادة ترميم، كان يغص بجرذان مثيرة للاشمئزاز. كبيرة، عنيفة، بأقدام وردية، مرعبة بشكل يضيف مزيدا من الاحتقان إلى أجواء فاس».
أغلب هذه الكتابات استعملت كتقارير في ما بعد عن وضعية قطاع الصحة بالمغرب، قبل 1912، تمهيدا لتقوية الوجود الأجنبي في بلد لم يكونوا وقتها يعلمون عنه إلا النزر القليل.