شوف تشوف

الرأي

أفول الثقافة الفرنسية

باز
وسط الجدال الدائر حول اعتماد اللغة الفرنسية في مدارسنا الوطنية، وكيفية إيجاد حل للمسألة اللغوية وضرورة الحسم فيها على ضوء حاجياتنا ومتطلباتنا الوطنية على المستويين العلمي والاقتصادي من جهة، وتبني اختيارات عملية تتوافق مع حقائق العصر الحالي من جهة أخرى، تعود بنا الذاكرة إلى سنة 2007 حينما فجر الصحفي الأمريكي في مجلة «تايم» الأمريكية دونالد موريسون قنبلة من العيار الثقيل، من خلال مقالة تحمل عنوان «موت الثقافة الفرنسية» حولها إلى كتاب بعنوان «ماذا تبقى من الثقافة الفرنسية؟». خلاصة أفكاره أن فرنسا، التي قامت عظمتها على يد كبار الكتاب والفنانين والمفكرين، لم يعد لديها ذلك الإشعاع العريض. رغم أن الحكومة الفرنسية، بحسب قوله، تنفق معدل 1.5 في المائة من إنتاجها الداخلي الخام لدعم مجالات واسعة من الأنشطة الثقافية والترفيهية، مقارنة بـ 0.7 في المائة في ألمانيا و0.5 في المائة في بريطانيا و0.3 في المائة في أمريكا.
هذا الدعم يتخطى الحدود الفرنسية عن طريق وزارة الخارجية التي تسهل تنقل الفنانين الفرنسيين حول العالم. والسؤال المطروح لماذا لم تنجح تلك المساعدات في إيقاف هذا التراجع؟ المشكل الأول يراه في كون عدد الناطقين بالفرنسية الذي يضعها في الصف 12 عالميا عكس الإنجليزية التي تحتل الرتبة الثانية وراء الصينية. المشكل الثاني هو الدعم في حد ذاته، فهو يؤدي إلى ضعف مستوى الإنتاج ولا يشجع القطاع الخاص على المبادرة ولا المنتجين على رؤية العالم الخارجي، وبالتالي العودة إلى إشعاعها السابق. إضافة إلى ذلك، يقر دونالد موريسون بأن الثقافة الفرنسية ذات نوعية جيدة لكنها، في المقابل، لا توزع إنتاجها خارج فرنسا، ويقول إننا نشعر وكأن الفرنسيين راضون عن ذلك.
وهذا حال الرواية الفرنسية التي لا تخاطب سوى جمهور ضيق من القراء وتكاد تغفل العالم المحيط بها، رغم أن الثقافة الفرنسية في مجملها تتمتع بحماية بالغة ودعم فائق، حيث تهيمن الدولة بشكل كبير على الشأن الثقافي. إن فرنسا مثل أمريكا تعتقد في نفسها أن ثقافتها حاملة لقيم معينة ترى من الضروري تصديرها إلى العالم مثل حقوق الإنسان.. لكنها، لأسباب عدة، تبقى متقوقعة في حدودها الضيقة، بينما تعتبر اليوم جنة هواة الثقافات الأجنبية القادمة من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
إن فقدان حيوية الثقافة الفرنسية وتحولها إلى ثقافة فرانكوفونية بالنظر إلى عدد الفائزين بأكثر الجوائز الفرنسية ذات الرمزية الكبيرة من قبل كتاب من أصول مهاجرة، يدفع الكثير إلى التساؤل عن مستقبلها في ظل ظهور منافسة شديدة لمراكز ثقافية أوروبية في ألمانيا وإنجلترا، فضلا عن بلدان أخرى صاعدة.
من الأمور التي وقف عندها دونالد موريسون، أن قلة ما يترجم من أعمال الروائيين الفرنسيين إلى لغات أخرى، وعدم إقبال الناشرين عليها، هي أعمال، بحسب قوله، لا تصف العالم بل تحكي ذوات كتابها فيما يسمى الرواية الذاتية أو الخيال الذاتي، ما أساء كثيرا إلى الرواية، شأنها شأن الأفلام السينمائية التي أصبحت ثرثارة ولا تتناول قضاياها سوى من وجهة نفسية.. فتراجع النفوذ الثقافي عبر العالم يطرح على البلدان التي اعتمدت اللغة الفرنسية أداتها للتواصل مع العالم ولنقل المعرفة العلمية والتكنولوجية، معضلة مستعصية الحل أو تتطلب شجاعة كبيرة، مثل ما قامت به رواندا، الدولة الإفريقية التي تحولت من اللغة الفرنسية إلى اللغة الإنجليزية. أليس من الممكن للتعليم المغربي أن يتبنى تعددا لغويا كما كان في السابق، أن تسترجع الإسبانية والألمانية مكانتهما مع دعم كبير للإنجليزية يوازي مكانتها في العالم اقتصاديا وتكنولوجيا دون التفريط في الفرنسية، لكن بما يتوافق وحجم نفوذها في العالم؟ هذا الاختيار صار ملزما لنا، لأن واقعنا الحالي، للأسف، هو كالتالي: المغربي مهووس بالتفكير في فرنسا.. والفرنسي مهووس بالتفكير في أمريكا.. الأمريكي وحده لا يفكر إلا في نفسه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى