أفوقاي.. مغامرات موريسكي مغربي
مشاهير وأعلام من تاريخ المغرب
سلسلة من النوابغ الذين ارتبطوا بتاريخ المغرب بصفة مباشرة أو غير مباشرة، تركوا أثرا مهما في شتى حقول المعرفة والفنون. رجال ونساء قديما وحديثا احتفظت بهم الذاكرة المغربية والإنسانية بأسمائهم وأعمالهم، للتذكير بهم أحيانا ونفض غبار النسيان عنهم أحيانا أخرى، ونفتح الباب عريضا من أجل الكشف عن أهم المحطات البارزة في مسار حياتهم.
تعتبر حياة الموريسكي شهاب الدين أحمد بن قاسم الحجري مليئة بالمغامرات، التي امتدت لعقود منذ أن قرر هذا الشاب الغرناطي أن يخرج من بلاده قاصدا المغرب، فرارا من محاكم التفتيش الإسبانية والاضطهاد الديني في بلاد الأندلس. اشتهر الحجري بلقب «أفوقاي» التي تعني المحامي بالإسبانية «Abogado»، وهي المهمة الرسمية التي كلف بها للدفاع عن الأندلسيين الذين نهبت سفنهم المكتراة من قبل الفرنسيين وغيرهم من الأوروبيين، وبذلك يعتبر أقدم المحامين المسلمين في القضاء الأوروبي. لكن لم يكن أفوقاي محاميا فحسب، بل كان مترجما بحكم إتقانه للغة الإسبانية والبرتغالية مثل ترجمته عن الإسبانية كتاب «العز والمنافع للمجاهدين بالمدافع»، وسفيرا ودبلوماسيا في عهد السعديين، خاصة أحمد المنصور الذهبي وخلفه زيدان إلى فرنسا وهولندا… وصاحب مناظرات دينية مع أوائل المستشرقين الأوروبيين، نجد آثارها بارزة في كتابه «رحلة الشهاب إلى لقاء الأحباب». ولد أفوقاي سنة 1569م بالحجر الأحمر إحدى قرى غرناطة، وإليها ينتسب، بعد سقوط الأندلس. يبدو أنه تعلم العربية خفية على يد ما تبقى من العلماء الأندلسيين مثل الأكيحل الأندلسي، فقر عزمه على اللجوء إلى المغرب وبذلك انفتح أمامه هذا المسار الطويل من المغامرات، وبعد قيامه برحلة الحج أواخر حياته وزيارة مصر حتى بلوغه تونس، حيث انقطعت بشكل غامض أخباره إلى وفاته بها سنة 1640م.
أفوقاي والهروب الكبير
يذكر أفوقاي بالتفصيل كيف لجأ إلى البريجة (مدينة الجديدة حاليا)، متنكرا في صفة مسيحي رفقة صديقه، لكي يتمكن من الهروب منها قاصدا مدينة أزمور ومنها إلى مراكش، أيام السلطان السعدي المنصور الذهبي. ويصف ذلك بقوله: «اعلم رحمك الله تعالى، أن البلاد التي على حاشية أبحر بلاد الأندلس، وأيضا في ما لهم في بلاد المسلمين، أن النصارى فيها من الحرص والبحث في من يرد عليها من الغرباء شيئا كثيرا. كل ذلك لئلا يذهب أحد أو يجوز عليها إلى بلاد المسلمين، وهمني الأمر كثيرا في كيفية الخروج من بينهم، وركبت البحر في بلد يسمى شنت مريا (سانتا ماريا)، وكان لي صاحب من بلدي من أهل الخير والدين، ومشى معي مهاجرا إلى الله وبلاد الإسلام… وأهل القارب لا يشكون فينا بأننا منهم، فقطعنا البحر في يومين، ونزلنا في بلد يسمى البريجة هو للنصارى، وليس بينه وبين مدينة مراكش إلا نحو الثلاثة أيام للماشي المتوسط، وتعجب من المنع الذي في بنيان سورها، هو أساسه على حجر صلد، وسقفه ثلاث عشرة ذراعا ولا يبالي بكور المدافع من إتقانه وغلظه، حتى شاهدت ثلاثة من الفرسان بخيلهم يدفعون خيلهم جملة على السور ولا يخافون الوقوع منه. ولما أن دخلنا سألنا القبطان: ما سبب قدومكم؟ قلت له: وقع لنا شيء من التغيير مع أناس ببلاد الأندلس وجئنا إلى حرمتكم، قال: مرحبا بكم. قلت: أحب منك أن تأذن لنا في رجوعنا إلى بلادنا مهما أردنا. قال: أذنت لكما». تسلل أفوقاي ورفيقه ليلا من البريجة قاصدين أزمور، مختبئين خشية أن ينتبه إليهما حراس الأسوار، وتمكنا من النجاح في ذلك، فيقول: «… وسرنا من البريجة، ثم صعدنا على جبل، ورأينا المسلمين يحصدون الزرع، ولما قربنا منهم جاؤوا إلينا بأسلحتهم وخيلهم، فلما وصلوا إلينا قلنا لهم: نحن مسلمون، فأمسكوا عن الحرب، وفرحوا بنا فرحا عظيما، وأعطونا الخبز والطعام الذي لم نره من يوم الجمعة قبل الزوال إلى يوم الاثنين عند الضحى. ثم بلغنا إلى أزمور فأقبل علينا قائدها… وشكرته على قضاء الحاجة وخلاصنا من الكفار… وبعد ذلك دخلنا مراكش، وهي مدينة كبيرة، وفواكهها كثيرة، وعنبها ليس في الدنيا مثله… وبعد أن دخل السلطان من المحلة وكان ذلك عام سبع وألف، وأنعم علينا، وأذن لنا
بالدخول إلى حضرته في يوم الديوان. ولما ابتدأت بالكلام الذي اخترته أن أقوله بحضرته العالية بصوت جهير، سكت جميع الناس الحاضرين كأنها خطبة. ففرح السلطان، وقال: كيف يكون ببلاد الأندلس من يقول بالعربية مثل هذا الكلام، لأنه كلام الفقهاء؟ وفرح بذلك كافة الأندلس القدماء، ورأينا العافية والرخاء في تلك البلاد…».
أفوقاي.. السفير والمحامي
يذكر أفوقاي أسباب تكليفه بالدفاع عن حقوق الأندلسيين المنهوبين بقوله: «… وكان الأندلسيون يقطعون البحر في سفن النصارى بالكراء، ودخل كثير منهم في سفن الفرنجة ونهبوهم في البحر. وجاء إلى مراكش أندلسيون منهوبون من الفرنجة من أربع سفن. وبعث رجل أندلسي من بلاد الفرنجة يطلب منهم وكالة ليطلب الشرع عنهم ببلاد الإفرنج، واتفق نظرهم أنهم يبعثون خمسة رجالا من المنهوبين ويمشي بهم واحد من الأندلسيين الذين سبقوهم بالخروج، واتفقوا أني أمشي بهم وأعطاني السلطان كتابه. وركبنا البحر المحيط بمدينة آسفي». ثم واصفا مدينة باريس ورفعه لقضية الأندلسيين: «هي دار سلطنة الفرنجة، وبينها وبين مدينة روان نحو الثلاثة أيام… وبيوتها عالية أكثر وأقل، وكلها عامرة بالناس، وديار الأكابر بالحجر المنجور إلا أنه بطول الزمن يسود لون الحجر… وقد رفعنا أمرنا الذي جئنا بسببه إلى تلك البلاد إلى الديوان السلطاني، وأعطوا كتب السلطان للقضاة». وبعدها أمستردام في هولندا: «ولما بلغنا إلى مدينة مسترضام، رأيت العجب في حسن بنيانها، ونقائها، وكثرة مخلوقاتها، كادت أن تكون في العمارة مثل مدينة بريش (باريس) بفرنجة. ولم تكن في الدنيا مدينة بكثرة السفن مثلها. قيل إن في جميع سفنها، صغارا وكبارا، ستة آلاف سفينة. وأما الديار، كل واحدة مرسومة، ومزوقة من أعلاها إلى أسفلها بالألوان العجيبة. ولن تشبه واحدة في صنع رقمها، والأزقة كلها بالأحجار المنبتة».