أفكار ضد التيار:المتهم الأول بدعم مواقف الدول المناوئة للتحالف الأمريكي الأوروبي
نعوم تشومسكي.. نقد عيوب ازدواجية المعايير 2
مفكر وعالم أمريكي الأكثر شهرة على الإطلاق. مفكرون أمريكيون كثيرون أثاروا جدالات عالمية، بعضها سياسي وفكري، وخاصة المفكرين المرتبطين باليمين المحافظ، أمثال فرانسيس فوكوياما وصمويل هتنغتون وقبلهما ليو شتراوس، الأب الروحي لهذا التيار، لكن كل هؤلاء بدأت أطروحاتهم تختفي وأضحت تنتمي لـ«تاريخ الأفكار» بسبب فقدان تأثيرها. في مقابل هؤلاء حافظ نعوم تشومسكي على حضوره الدائم، طوال عقود، دون تراجع أو تعديل لمواقفه المناهضة للأطروحات السياسية والشعارات الثقافية التي تبرر الهيمنة الأمريكية خاصة والغربية على باقي الشعوب.
ليس هذا فقط، بل إن أطروحاته العلمية حول اللغة وعلومها ماتزال تشكل قاعدة صلبة نشأت عليها أبحاث علمية ذات مصداقية تربويا ومعرفيا، وسلوكيا وتواصليا. صحيح أن تشومسكي مشهور أمريكيا، لكن شهرته أكبر في الأمم غير الغربية، لأنها ترى فيه صوتا حكيما وموضوعيا بعيدا عن التدجين الذي تمارسه كبريات وسائل الإعلام المؤثرة.
المفكر «المنبوذ» غربيا
ولد أفرام نعوم تُشُومِسْكِي في 7 دجنبر 1928 بفيلادلفيا، بنسلفانيا بالولايات المتحدة. هو أستاذ لسانيات وفيلسوف أمريكي وأيضًا عالمٌ إدراكيٍ وعالمُ منطقٍ ومؤرخ وناقد وناشط سياسي. يعمل تشومسكي أستاذًا فخريًا في اللسانيات في قسم اللسانيات والفلسفة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا التي عمل فيها لأكثر من 50 عاما. كذلك كتب تشومسكي عن الحروب والسياسة ووسائل الإعلام، وهو مؤلِّف لأكثر من 100 كتاب. ووفقاً لقائمة الإحالات في الفن والعلوم الإنسانية لعام 1992، فقد استُشْهِدَ بتشومسكي مرجِعًا أكثر من أي عالم حي في الفترة الممتدة من 1980 حتى 1992، كما صُنف في المرتبة الثامنة لأكثر المراجع التي يُستشهَد بها على الإطلاق في قائمةٍ تضم الكتاب المقدس وكارل ماركس وغيرهما. كذلك وُصف تشومسكي بالشخصية الثقافية البارزة، إذ صُوِّت له بوَسم «أبرز مثقفي العالم» في استطلاع للرأي عام 2005.
ويوصف تشومسكي أيضاً بأنه «أب علم اللسانيات الحديث»، ويُعد كذلك شخصية رئيسية في الفلسفة التحليلية. أثر عمله على مجالات عديدة كعلوم الحساب والرياضيات وعلم النفس. ويعود إليه كذلك تأسيس نظرية النحو التوليدي التي كثيراً ما تُعتبر أهم إسهام في مجال اللسانيات النظرية في القرن العشرين. وفضل أيضًا تأسيس ما أصبح يُعرف بـ «تراتب تشومسكي» ونظرية النحو الكلي ونظرية تشومسكي-شوتزنبرقر.
وبعد نشر كتابه الأول في اللسانيات أصبح تشومسكي ناقدا بارزا في الحرب الفيتنامية، ومنذ ذلك الوقت استمر في نشر كتبه النقدية في السياسة.
اشتهر بنقده للسياسة الخارجية للولايات المتحدة ورأسمالية الدولة ووسائل الإعلام الإخبارية العامة. وشمل كتاب «صناعة الإذعان.. الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام الجماهيرية» (1988) انتقاداته لوسائل الإعلام، والذي تشارك في كتابته مع إدوارد هيرمان، وهو عبارة عن تحليل يبلور نظرية لنموذج “البروباغندا” لدراسة وسائل الإعلام. ويصف تشومسكي آراءه بأنها «تقليدية لا سلطوية إلى حد ما تعود أصولها لعصر التنوير والليبرالية الكلاسيكية». في بعض الأحيان يتم تعريفه مع النقابية اللاسلطوية والاشتراكية التحررية، ويُعتبر كذلك منظراً رئيسياً للجناح اليساري في السياسة الأمريكية.
في نقد المعتاد
يصف تشومسكي آراءه بأنها «تقليدية أناركية إلى حد ما تعود أصولها لعصر التنوير والليبرالية الكلاسيكية»، وأشاد بالاشتراكية التحررية. وعلى الرغم من محاولته تجنب التصنيف إلا أن آراءه السياسية تُصنف غالباً باليسارية ووصف نفسه بأنه يتبع للنقابة الأناركية.
ويؤكد تشومسكي أن السلطة ما لم تكن مبررة فهي غير شرعية بطبيعتها وعبء إثباتها يقع على كاهل من هم في السلطة، وإن لم تستطع السلطة تحقيق هذا العبء يجب تفتيتها، أما السلطة لذاتها فغير مبررة أصلاً. وقدم تشومسكي مثالا على السلطة الشرعية مثل تلك التي تمارس من قبل شخص بالغ لتمنع طفل من قطع الشارع. ويرى أن هناك اختلافا أخلاقيا بسيطا بين العبودية وتأجير الفرد نفسه لمالك أو ما يسمى «عبودية الأجر». ويشعر بأن هناك هجوما على النزاهة الشخصية التي تقلل من شأن الحرية الفردية. ويقول تشومسكي إن العمال يجب أن يملكوا ويتحكموا بمكان عملهم، وهو رأي -كما يلاحظ هو- كان من قبل فتيات طاحونة لويل .
انتقد تشومسكي بشكل قوي السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وادعى وجود معايير مزدوجة في السياسة الخارجية، فهي تدعو للديموقراطية والحرية للجميع رغم أنها تتحالف مع المنظمات والدول غير الديموقراطية والقمعية، مثل دولة تشيلي برئاسة أوغستو بينوشي بما نتج عنه من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. ويجادل تشومسكي بأن تدخل الولايات المتحدة في الدول الأجنبية بما في ذلك المساعدات السرية التي تُقدم للمتمردين في نيكاراغوا -وهو جانب انتقده كثيرا- يناسب أي معيار وصفي للإرهاب، بما في ذلك التعريف الرسمي في قانون الولايات المتحدة وكتيبات الجيش في بدايات الثمانينات. وأدان تشومسكي الامبريالية السوفياتية قبل انهيارها، فمثلاً في عام 1986، خلال فقرة الأسئلة والأجوبة بعد إحدى محاضراته في جامعة سنتروامريكان في نيكاراغو حين سئل كيف يمكنه «أن يتحدث عن امبريالية أمريكا الشمالية وروسيا بنفس الوقت»، فرد تشومسكي «إحدى حقائق هذا الكون هو أن هناك قوتين عظميين إحداهما ضخمة وصادف أن يكون حذاؤها على عنقك والأخرى قوة أصغر وصادف أن يكون حذاؤها على أعناق آخرين. وأعتقد أن أي شخص في العالم الثالث سيقوم بخطأ جسيم إذا ما استسلموا للأوهام حول تلك المسائل».
تشومسكي والحرب الروسية الأوكرانية
قال تشومسكي إن وسائل الإعلام في الولايات المتحدة تخدم، إلى حد كبير، «الكهانة المشتراة» للحكومة الأمريكية وشركاتها لخدمة مصالحها المشتركة. وفي إشارة شهيرة لوالتر ليبمان، كتب تشومسكي، بالاشتراك مع إدوارد هيرمان، أن الإعلام الأمريكي يقوم بصناعة الإذعان بين أوساط الجماهير. وأدان تشومسكي المحكمة العليا في الولايات المتحدة في عام 2010 لحكمها بإلغاء القيود على تمويل الحملات الانتخابية، ووصف هذا الحكم بأنه «استيلاء الشركات على الديموقراطية».
وفي هذا السياق انتقد تشومسكي موقف الولايات المتحدة من الحرب الدائرة في أوكرانيا، واصفا موقف واشنطن بأنه يتمثل بمواصلة الحرب حتى يقتل آخر أوكراني.
وقال تشومسكي، في مقابلة مع صحيفة «ذا ناشونال» الإماراتية، إن هناك احتمالين في ما يتعلق بانتهاء الحرب الأوكرانية، موضحا أن «الاحتمال الأول يتمثل في مواصلة تسهيل تدمير أوكرانيا، والانتقال بعدها إلى حرب نووية محتملة. هذا احتمال وارد. وعندما تقرأ عنوانا عريضا في صحيفة بارزة في الولايات المتحدة يقول (علينا تدمير روسيا) ويطالب بذلك، فهذا يعني الرغبة في القضاء على كل من في أوكرانيا والانتقال بعدها إلى حرب نووية قد تنهي الحياة البشرية على الأرض».
وأضاف: «يتمثل البديل للسيناريو السابق بالمضي إلى تسوية دبلوماسية متفاوَض عليها. وهذا النوع من التسوية سيكون قبيحا من دون شك. وذلك لأنه يعني تقديم خطة هروب من نوع ما للرئيس فلاديمير بوتن. وإذا لم توفر له هذه التسوية خطة هروب، فإنه لم يتبق لبوتن أي خيار غير استخدام كامل قوته وجر العالم لحرب نووية شاملة».
وتابع: «أي تسوية ينبغي أن توفر خطة هروب من نوع ما للرئيس الروسي، والجميع يعرف ما هي هذه الخطة. هي تسوية تضمن بقاء أوكرانيا دولة محايدة، ومخرجا دبلوماسيا ما لتجميد وضع دونباس وشبه جزيرة القرم من أجل مناقشته في مرحلة لاحقة، ووقف إطلاق النار، وانسحاب القوات الروسية. هذا أساسا هو إطار التسوية الممكن. وكما يعرف الطرفان، هذان هما الخياران الوحيدان المتاحان».
لماذا فعل بوتين ذلك؟ هناك طريقتان للنظر إلى هذا السؤال. إحدى هذه الطرق، هي الطريقة العصرية في الغرب، وتنطوي على سبر أعماق عقل بوتين الملتوي ومحاولة تحديد ما يحدث في قرارة نفسه. والطريقة الأخرى هي النظر إلى الحقائق: فمثلًا، أصدرت الولايات المتحدة في شتنبر 2021 بيانًا سياسيًّا قويًّا يدعو إلى تعزيز التعاون العسكري مع أوكرانيا، وإرسال مزيد من الأسلحة العسكرية المتقدمة، وكل ذلك كان جزءًا من برنامج تعزيز انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو. ويمكنك أن تختار أيًّا من الطريقتين؛ إذ لا نعرف حقًّا أيهما الخيار الصائب. وما نعرفه حقًّا الآن هو أن أوكرانيا ستتعرض لمزيد من الدمار. وربما ننتقل إلى حرب نووية نهائية إذا لم نقتنص الفرص الموجودة حاليًا للتوصُّل إلى تسوية تفاوضية»
هل أمريكا حقًّا راعية الديمقراطية في العالم؟
ولكن كيف يرد تشومسكي على الحجة القائلة إن خوف بوتين الأكبر ليس هو تطويق الناتو، بل انتشار الديمقراطية الليبرالية في أوكرانيا و«الخارج القريب» من روسيا؟
أجاب تشومسكي: «بوتين مهتم بالديمقراطية مثلنا، إذا كان بإمكانه الخروج من فقاعة الدعاية لبضع دقائق، وللولايات المتحدة تاريخ طويل في تقويض الديمقراطية وتدميرها، هل هناك حاجة لذكر هذه الوقائع؟ إيران عام 1953، وجواتيمالا عام 1954، وتشيلي في عام 1973.. إلخ. والآن من المفترض بنا أن نحترم التزام واشنطن الهائل بالسيادة والديمقراطية ونعجب به. وما حدث في التاريخ لا يهم، فذلك حدث لأشخاص آخرين».
ماذا عن توسُّع الناتو؟ كان هناك تعهد صريح لا لبس فيه أطلقه وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر والرئيس الأمريكي جورج بوش الأب لميخائيل جورباتشوف، رئيس الاتحاد السوفياتي، بأنه إذا وافق على انضمام ألمانيا الموحَّدة إلى حلف الناتو، فإن الولايات المتحدة ستضمن أنه لن يكون هناك تحرك قَيْد أُنمُلة واحدة باتجاه الشرق، وهناك قدر كبير من الحديث حول هذا الأمر يجري الآن.
وتشومسكي لاحظ عام 1990 أنه إذا طُبِّقت قوانين نورمبرج، وهي سلسلة من القوانين العنصرية صدرت عام 1935 وكانت من معالم السياسة التشريعية المناهضة لليهود في ألمانيا، فإن كل رئيس أمريكي شغل المنصب بعد الحرب كان من المفترض أن يُعدم، وتحدث بازدراء عن جو بايدن.
ويشير الكاتب إلى تعليق تشومسكي على تصريح بايدن الأخير الذي قال فيه إن الرئيس الروسي «لا يمكن أن يظل في السلطة» قائلًا: «بالتأكيد هو أمر صائب أن تكون هناك غضبة أخلاقية من تصرفات بوتين تجاه أوكرانيا، ولكن سيكون هذا الفعل تقدميًّا أكثر إذا كان هناك غضب أخلاقي حول الفظائع الأخرى، ففي أفغانستان، يواجه الملايين حرفيًّا مجاعة وشيكة. لماذا؟ هناك طعام في الأسواق. صحيح، ولكن الأشخاص الذين يملكون قليلًا من المال عليهم أن يشاهدوا أطفالهم وهم يتضورون جوعًا لأنه لا يمكنهم الذهاب إلى الأسواق وشراء الطعام. لماذا؟ لأن الولايات المتحدة، وبدعم من بريطانيا، تحفظت على أموال أفغانستان في بنوك نيويورك ولم تفرج عنها».