شوف تشوف

شوف تشوف

أفراح صغيرة

كان انتصار المنتخب الوطني على الكوت ديفوار وتأهله إلى دور ربع نهاية كأس إفريقيا للأمم مناسبة اكتشفنا فيها أننا نحن المغاربة لدينا نقص حاد ومزمن في الفرح
والسعادة، ولذلك بمجرد ما أطلق الحكم صافرته إيدانا بانتهاء المباراة حتى نزل المغاربة إلى شوارع المدن وساحاتها يرقصون ويهللون فرحا بفوز المنتخب، كما لو أنه فاز بالكأس وليس بمجرد مباراة إقصائية، ونحن المغاربة هذه عادتنا “ديما مسبقين الفرح بليلة”.
وإذا كان هذا الحماس المفرط للاحتفال بمجرد نصر صغير يعني شيئا فإنه يعني أننا كشعب نعاني من فقر حاد في السعادة، على وزن فقر الدم، ولذلك فأصغر الأفراح يمكن أن تكون عندنا مناسبة للاحتفال والتخليد.
فهذه الهزائم المتكررة للفريق الوطني تتسبب للجمهور المغربي في “الفقصة”.
والواقع أن الذين يستسهلون ما كان يحدث للمنتخب الوطني من بهدلة يجهلون التأثير الخطير لكرة القدم على نفسية الشعوب فالمنتخبات الوطنية هي التجسيد الأكثر شعبية وجماهيرية لأحاسيس الانتماء إلى الوطن ولمشاعر الحماسة المرتبطة بالدفاع عن ألوان الراية وشعار الدولة.
وسواء في المغرب أو غيره، تبقى كرة القدم رياضة شعبية تمارس سحرا كبيرا على الشعوب، فهي تختزل طموحات الجماهير للنصر، وتعبر عن قيم المنازلة والمبارزة والشجاعة والافتخار، ولذلك فتحطيم المنتخب الوطني يعني تحطيم هذه القيم التي ترتبط بالكرة، مما يخلق لدى الشعب حالة من الانهزامية واحتقار الذات واستصغارها، وهي مشاعر هدامة تسعى الأنظمة إلى محاربتها.
ويبدو أن الحسنة الوحيدة في مشاركة المغرب في إقصائيات كأس إفريقيا للأمم هي أنه عندما خسر التأهل فقد ربح منتخبا يمكن أن يصبح واحدا من أقوى المنتخبات على الصعيد الإفريقي، كما خرج بدرس بليغ مفاده أن ليس كل ما يلمع ذهبا، وأن اللاعبين من صنف “بنخطية” لا يجب التعويل عليهم في المستقبل.
وما أحوج المغاربة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى فريق وطني يحيي أمجاد الماضي، ويعيد القليل من روح النخوة والافتخار إلى النفوس المتعطشة لانتصار صغير يقطع مع هذه السلسلة المتواصلة من الهزائم النكراء، فقد كثرت علينا الهموم وتداعت علينا الأمم وأصبح فريقنا الوطني مسخرة في الملاعب.
ولعل الدولة والحكومة والقائمين على الشأن الرياضي في المغرب لم يفهموا بعد أن تدني المستوى الرياضي، وخصوصا في لعبة شعبية ككرة القدم، يساهم بشكل كبير في تدني الشعور الوطني للمغاربة.
فالإحساس بالخيبة والهزيمة والعار أصبحت أكثر المشاعر التي يعبر عنها المغاربة عقد كل هزيمة كروية.
ومن يرى كيف تصرف الدول الأخرى الميزانيات الباهظة في تكوين اللاعبين واقتنائهم لإحراز الانتصارات في الملتقيات الكروية الدولية، يفهم أن المسألة لا تتعلق فقط بإحراز انتصار أو كأس أو بطولة، بقدر ما تتعلق بهدف أساسي وراء ذلك هو تقوية الشعور الوطني ومشاعر الانتماء إلى الوطن والافتخار برايته وبنشيده، وإلا ما الداعي إلى رفع اللاعبين المنتصرين لرايات بلدانهم داخل ملاعب الخصوم، وإبداء ملامح الخشوع أثناء عزف النشيد الوطني.
والمغاربة كشعب من حقهم أن يكونوا سعداء، وأن يطردوا عنهم هذا التجهم والتعاسة التي تخيم على وجوههم.
وربما ليس صدفة أن يحتل المغرب المراتب المتأخرة ضمن ترتيب الدول الأكثر سعادة، فنحن، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، نتوفر في بلادنا على جميع أسباب التعاسة التي حصرتها جامعة «ليستر» البريطانية في استطلاع للرأي نشرته ورسمت على ضوء نتائجه خريطة السعادة في العالم.
فمن بين أسباب التعاسة كما حددتها وحدة «مكتوب للأبحاث» وكما حددتها جامعة «ليستر» البريطانية نجد «ارتفاع تكاليف المعيشة والبطالة والرواتب المتدنية وسوء الصحة وعدم الشعور بالسعادة في الحياة الزوجية وعدم الشعور بالرضا عن المظهر الخارجي، وافتقاد الأصدقاء وعدم الاستقرار العام والخوف من المستقبل».
وقد يعتقد البعض أن الطبقات العاملة أو المتوسطة أو المسحوقة في المغرب هي وحدها المعنية بهذا الشعور الفادح بالتعاسة، وأن طبقة «المرفحين» و«الألبة» لا تشملها هذه التعاسة، وهذا خطأ.
فإذا كانت الطبقات الشعبية في المغرب، أو ما يسميه أبناء العائلات الكريمة في نواديهم المغلقة وصالوناتهم المخملية بـ«لابوبيلاص»، تشعر بالتعاسة بسبب بطالة أبنائها أو بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة وسوء الخدمات الصحية وهزائم المنتخب الوطني، فإن طبقة «الألبة» لديها أيضا نصيبها من التعاسة، خصوصا بسبب عدم الرضا عن المظهر الخارجي وافتقاد الأصدقاء والخوف من المستقبل.
ويكفي أن يراجع الواحد منا لائحة أسماء الذين يتزاحمون هذه الأيام أمام عيادات أطباء الجراحة التجميلية لكي يكتشف الانتماء الطبقي لهؤلاء الراغبين والراغبات في «تجبيد» جلود وجوههم المرتخية وزرع شعور فوق صلعاتهم اللامعة، ونفخ شفاههن بالبوطوكس وحشو صدورهن ومؤخراتهن بالسيليكون حتى يجدن ممتلكات يصرحن بها في مسابح النوادي الخاصة وشواطئ لاس بالماس وسان تروبي وماربيا.
هناك الكثير من التعساء بين الأغنياء أيضا، بعضهم يصرف راتب موظف في السلم الحادي عشر كل شهر فقط لكي يقلم أظافره وينتف حاجبيه الكثيفين وزغب أنفه لكي يظهر أقل شيخوخة من العادة في أمسية ساهرة بمراكش نهاية الأسبوع.
وأخريات بينهن من تخسر ما يعادل ثمن عملية جراحية على القلب فقط على غطس جسدها في صهاريج «الغيس» وتدليك أطرافها المترهلة في حمامات فنادق الخمس نجوم بالاص، لكي تقنع نفسها أمام زميلاتها في كوكتيلات الحفلات الخاصة بأن «الكار» لم يفتها بعد.
يعاني أيضا «المرفحون» من افتقاد الأصدقاء الحقيقيين، فأغلبهم محاطون بأصدقاء انتهازيين لديهم استعداد فطري للتنكر لهم بمجرد نزول أسهم أحدهم في البورصة أو شيوع خبر إفلاس شركتهم.
ومثل هذه الصداقات الزائفة والمبنية على المصلحة هي السائدة بين الأثرياء وأغلب أعضاء «العائلات الكريمة». ولذلك غالبا ما يتزوجون في ما بينهم حتى لا يتفرق دمهم، وبالتالي ثروتهم، بين القبائل، أو ما يسمونهم بـ«الهجيج» في جلساتهم العائلية.
أما ما تشترك فيه جميع الطبقات على اختلاف مستوياتها الاجتماعية فهو الخوف من المستقبل، فموظفو الطبقة المتوسطة وعمالها وفقراؤها يخافون أن يفاقم المستقبل من أزمتهم، والأغنياء يخافون أن يجدوا أنفسهم في المستقبل مضطرين للتخلي عن امتيازاتهم ونمط عيشهم المرفه. مع فارق بسيط هو أن الأغنياء في المغرب يستعدون للمستقبل بتعليم أبنائهم في الخارج والبحث لهم ولأنفسهم عن جنسيات أجنبية استعدادا لترك السفينة في الوقت المناسب، أما البقية فتستعد للمستقبل بإغراق نفسها في المزيد من القروض.
ولعل ما غاب عن باحثي «وحدة مكتوب للأبحاث» وجامعة «ليستر» البريطانية هو أن أكبر سبب لتعاسة المغاربة هو أنه بين كل أربعة مغاربة هناك ثلاثة لديهم قروض يؤدون أقساطها كل شهر من رواتبهم.
ولهذا نرى كيف تراجعت القدرة الشرائية للمواطنين في مقابل تسجيل البنوك والمؤسسات المالية لأرباح خيالية في السنوات الأخيرة، لذلك أصبح المغاربة يخافون من الخروج إلى الشارع للاحتجاج على غلاء المعيشة واستنزاف الشركات الكبرى والبنوك لجيوبهم.
يخرجون فقط عندما يتعلق الأمر بالنزول إلى الشارع للهتاف فرحا بعد نصر صغير للمنتخب، وذلك أضعف الإيمان.
فالكثيرون يحصرون الوطنية فقط في حمل راية المغرب والنزول بعد كل نصر صغير بالسيارة إلى الشوارع والإكثار من “طوط زطوطوط”، بينما الوطنية أكبر من ذلك، وعلى رأسها استعداد المواطن لحماية أموال دافعي الضرائب من اللصوص والنزول إلى الشوارع للمطالبة بمحاسبة من تلاعب بها أو بددها أو سرقها.
تلك هي قمة التعبير عن الوطنية والتحضر وحب الوطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى