أحمد مصطفى
في زمن تراجع الأخبار الجادة التي تهم الناس، إلا ما هو مغرض و«تلفيقي» منها، تذخر وسائل الإعلام ومواقع التواصل بتفاصيل أخبار نساء تحولن إلى مليارديرات بعد طلاقهن من أزواجهن الأثرياء – من طليقة جيف بيزو، صاحب «أمازون»، إلى طليقة بيل غيتس، صاحب «مايكروسوفت»، وغيرهما. والتركيز في تلك القصص على استفادة الزوجة من الطلاق.
إلا أن هناك عملية انفصال منذ أربع سنوات كانت أغلى طلاق على الإطلاق، وإن لم يكن بين زوج وزوجة. ذلك هو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكست»، بعد نصف قرن من العضوية. كان البريطانيون صوتوا في 2016 لصالح «بريكست»، في استفتاء جاءت نتيجته شبه مناصفة، ليتم الطلاق رسميا بنهاية أول شهر في 2020.
لم يكن طلاق بريطانيا من أوروبا مكسبا لأي طرف، لذا هو يختلف عن طلاق الأثرياء الذي نتابع أخباره في وسائل الإعلام ومواقع التواصل. بل كان في الواقع خسارة للطرفين، وإن كانت الطليقة أكبر خسارة، ليس فقط من بضع عشرات المليارات التي كان عليها أن تدفعها للاتحاد تعويضا (أشبه بنفقة طلاق لمرة واحدة)، وإنما لأنها تعاني منذ الانفصال أكثر من معاناة أوروبا من خروجها.
في أحدث استطلاع للرأي، قبل أيام، أعرب أغلبية البريطانيين عن خيبة أملهم من «بريكست» ووصفوه بالفشل. حتى هؤلاء الذين صوتوا للخروج من أوروبا، قبل ثماني سنوات، قالوا إن أوضاعهم المعيشية أصبحت أسوأ في السنوات الأربع الأخيرة منذ الطلاق الرسمي بين بريطانيا وأوروبا. وقال ثلاثة أرباع المستطلعة آراؤهم إن «بريكست» أضر بالاقتصاد البريطاني وبمستوى معيشة البريطانيين، وجعل النظرة للمستقبل أكثر تشاؤما.
بالطبع يعد ندم البريطانيين غير ذي معنى، لأنه جاء بعد فوات الأوان، إذ تصعب الآن العودة عن «بريكست» تماما. في حملة استفتاء «بريكست» روج المتحمسون من أمثال رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون وفريقه من حزب المحافظين، أن «بريكست» سيمكن بريطانيا من الازدهار بعيدا عن بيروقراطية الاتحاد الأوروبي، وسيوقف موجات الهجرة إلى بريطانيا ويجعل البلاد مسيطرة أكثر على حدودها وقادرة على اتخاذ قرارتها بحرية، لتنطلق إلى آفاق عالمية أوسع، وبالتالي يتمتع البريطانيون برخاء لم يشهدوه وبلادهم ضمن الاتحاد. وعلى سبيل المثال، كذبوا بالقول إن «بريكست» سيوفر نصف مليون دولار أسبوعيا للخدمة الصحية الوطنية البريطانية.
بعد أربع سنوات، وبالأرقام والبيانات الرسمية، خسر الاقتصاد البريطاني نحو نصف تريليون دولار، بسبب «بريكست» والانفصال عن الشريك التجاري الأكبر له. وانكمش حجم اقتصاد بريطانيا بنحو الخمس وأصبح الأسوأ أداء بين أقرانه، وزادت كلفة المعيشة على البريطانيين أكثر من أي بلد مماثل. قد يحاجج بعض مؤيدي «بريكست» بأن الطلاق الرسمي تزامن مع أزمة وباء كورونا، ثم ارتفاع معدلات التضخم العالمية. لكن كل تلك العوامل كانت مؤثرة في كل دول العالم، وليس بريطانيا فقط.
من نتائج استطلاعات الرأي في الأسبوع الأخير، مع الذكرى السنوية الرابعة لـ«بريكست»، نجد أغلبية البريطانيين يرون أن أوضاعهم المعيشية أصبحت أكثر سوءا مما كانت عليه وبريطانيا عضو في الاتحاد الأوروبي. وأن «بريكست» أضر بتمويل الخدمات الصحية، ولم يجعل البلاد أكثر تحكما في حدودها، بل أضر بذلك لتزيد الهجرة السنوية إليها، على رغم تراجع أعداد المواطنين الأوروبيين في بريطانيا. فضلا عن أن الطلاق من أوروبا أضر كثيرا بالوضع الدولي لبريطانيا وبآفاق نموها الاقتصادي على السواء.
أما الانطلاقة الحرة التي وعد بها أنصار الطلاق فلم يتحقق منها الكثير، بل على العكس أصاب بريطانيا العجز أكثر مما لو كانت مع أوروبا. المثال الأبرز أن تصور إقامة اتفاقيات تجارة حرة مع القوى الاقتصادية العالمية، بمجرد الخروج من أوروبا وإلغاء قيود الاتحاد البيروقراطية سيعوض أي خسائر محتملة من التجارة مع أكبر شريك لبريطانيا عبر القنال الإنجليزي، بل ويزيد المكاسب أضعافا ثبت أنه أقرب إلى الوهم.
فحتى الآن، لم تبرم بريطانيا اتفاقية تجارة حرة تحقق لها مكاسب كبيرة. والأهم، أن الاتفاق مع الولايات المتحدة، الذي كان يروج له أصحاب «بريكست» أن يتم على الفور قبل أربع سنوات، لم يحدث. بل فشلت أخيرا مفاوضات اتفاقية تجارة حرة مع كندا، وما زالت اتفاقية مماثلة مع الهند وكوريا الجنوبية بانتظار الانتهاء من مفاوضاتها. وفي النهاية، وحسب الأرقام الرسمية لم تعوض بريطانيا بعد ربع ما خسرته تجاريا بالخروج من الاتحاد الأوروبي.
وفي الوقت الذي زاد فيه أعداد المهاجرين إلى بريطانيا ليبلغ أعلى مستوى له، العام قبل الماضي، بدخول ثلاثة أرباع مليون شخص، لم يعد البريطانيون يتمتعون بحرية الحركة في أوروبا، كما كان قبل الطلاق. صحيح أنهم ليسوا بعد في وضع من يحتاج تأشيرة دخول إلى دول الاتحاد الأوروبي، لكنهم في المطارات والموانئ يقفون في الطوابير بانتظار ختم جوازات سفرهم – فلم يعودوا من العائلة الأوروبية بعد. هذا فضلا عن قيود جديدة على كثير من البريطانيين المتقاعدين، الذين يتركون بلادهم الباردة الغائمة إلى دول أوروبية دافئة ومشمسة.
الأمثلة لا تعد ولا تحصى على الأضرار التي بدأت تشعر بها الدولة المطلقة، التي لم تحصل على أي فوائد من الطلاق، بل على العكس تتحمل نفقات وخسائر بالمليارات. ما يجعل «بريكست» بالفعل أغلى طلاق بالسلب وليس إيجابيا.
نافذة:
بعد أربع سنوات وبالأرقام والبيانات الرسمية خسر الاقتصاد البريطاني نحو نصف تريليون دولار بسبب «بريكست» والانفصال عن الشريك التجاري الأكبر له