أغرب البعثات الرسمية المغربية لنقل التجارب الأوربية إلى المغرب
سخر الأجانب في طنجة سنة 1908 من أول محاولة مغربية لتأسيس قوات أمنية تجوب المدينة، للسهر على أمن المواطنين وحماية ممتلكاتهم، وقالوا إنها محاولة تقليد غير موفقة لما رآه الوفد المغربي الرسمي أثناء زيارة إلى إيطاليا بهدف نقل التجربة الأمنية الإيطالية إلى المغرب. لكن ما وقع أن المغاربة استطاعوا فعلا تحصين طنجة والحد من انتشار الجريمة، معتمدين على عناصر متواضعة. الأمر نفسه جرى على الجيش، حيث مر بمراحل كثيرة ومنعطفات طالها النسيان.
تقول الأسطورة إن أحد زعماء العالم تحسر على عدم توفر بلاده على عينة من المقاتلين المغاربة في صفوف جيشه، وإلا لكان انتصر في جميع الجبهات. وظهرت بعد ذلك شعوب أخرى نسبت نفس المقولة لجيشها، إلى درجة أصبح من الصعب تحديد ما إن كان الجيش المغربي معنيا بتلك المقولة منذ البداية.
حسب المعطيات التاريخية المتوفرة، فإن الجيش المغربي يبقى واحدا من أوفر الجيوش حظا في العالم، لأن أبناءه الأولين، بالشكل الحديث للجيوش، تلقوا تكوينا صارما على يد أقوى جيوش العالم، وكانوا حاضرين في أكثر المعارك التي رسمت لنا حدود العالم الجديد.
بدأ الجيش المغربي قديما، لكن بدايته الفعلية بالشكل المتعارف عليه للجيوش لم تكن إلا في عهد المولى الحسن الأول الذي كان سباقا إلى الاستعانة، أو الموافقة، على عروض أجنبية لتأهيل الجيش المغربي وتكوين أطره.
في هذا الملف، إطلالة على أهم المراحل التي مر بها تأسيس الجيش المغربي وتكوين نخبته الأولى التي تحفظ الأجانب كثيرا على منحها لقب النخبة. فقد كان على المغاربة أن يقطعوا أشواطا طويلة، حتى يتمكنوا من استحقاق البذلة العسكرية العصرية.
لم تستفد فرنسا من المغاربة الذين «درسوا»، ولو على مضد، تقنيات استعمال السلاح والمدفعية على يد خبراء فرنسيين. ولا بد أنها كانت غير محظوظة عندما وجدت أن الذين دربتهم أربعين سنة قبل الحرب العالمية الأولى، لم ينقلوا تجربتهم ومعارفهم إلى إخوانهم المغاربة، وهكذا قامت فرنسا بالاستعانة عشوائيا بالشبان المغاربة في الحرب العالمية الأولى، وجعلت تكوينهم لا يقبل الغلط لأنه تم في معارك حقيقية.
النتيجة كانت حصول المغرب على جيل أول من الجنود المغاربة، الذي اعترف أحدهم في محاكمة انقلاب الصخيرات بأنه دخل الجيش من أجل «الكاميلة» فقط، ليتضح أن الجوع كان محركا للكثيرين لكي يحسنوا حياتهم ويقامروا بها في أوربا حاملين السلاح.
كانت الحياة رتيبة في الدار البيضاء والرباط خلال الثلاثينات والأربعينات، وكان لفتح فرنسا لمدارس للتكوين العسكري العاجل وقع كبير في نفوس الشبان الذين كانوا من أوائل المغاربة المتلقين للعلم في مدارس عصرية، على يد أساتذة فرنسيين. هؤلاء شكلوا الجيل الثاني من الجنود المغاربة، حيث تم توجيههم بعد تكوين عسكري قصير، إلى الحرب الهند الصينية، وتم ترحيل آخرين منهم إلى أوربا لمساندة القوات الفرنسية لوقف المد الألماني، وهكذا حصل عدد كبير من الجنود المغاربة على ترقيات ورتب عسكرية مرموقة للمرة الأولى.
وبعد الاستقلال أصبح هؤلاء نخبة العسكريين المغاربة. في هذا الملف مقاربة للمراحل التي مر منها تطور الجهاز العسكري المغربي ليصل إلى ما هو عليه اليوم. ولعله من الطريف أيضا أن نسلط الضوء هنا على مراحل لم يولها التاريخ، حتى الرسمي، اهتماما يليق بدورها الحاسم في صناعة تاريخ المغرب.
الحسن الأول.. أكثر الملوك شهرة بحكم البلاد من «صهوة» فرسه
قد يختلف المؤرخون في تحديد هوية الملك الذي عاش أكبر قدر من الحروب وخاضها، أو من كان مسكونا بحياة العسكر، لكن الأكيد أنهم لن يختلفوا في جعل الحسن الأول من بين الأسماء التي تتصدر اللائحة. ما يجعلنا نسلط الضوء هنا على المولى الحسن الأول، كونه خاض غمار تجربة هيكلة الجيش المغربي للمرة الأولى، بالمعنى العصري للهيكلة. فحتى المولى إسماعيل الذي كان عهده حافلا بالحروب، لم يكن ليحدث التغييرات التي جعلت الجيش المغربي يتحول إلى «الصيغة» العصرية، على غرار الجيوش الأخرى.
كان الحسن الأول قد أسس أركان الحرب، مستفيدا من خبرة عسكريين أجانب، وهكذا أصبح للجيش المغربي وزير خاص أطلق عليه وزير الحربية وعين له نائبا، وسلما إداريا يبدأ من بعض الأسماء المقسمة على مناطق المغرب، والذين أوكلت إليهم الدولة المغربية في العهد الحسني مسؤولية الإشراف على الفرق حسب المناطق، وهكذا ينزل السلم الإداري ليصل إلى أقل الجنود رتبة.
كان هناك اسم بارز في المجال العسكري وقتها، وجاء ذكره في مصادر تاريخية متفرقة، ورغم ذلك فإن اسمه لم يلق الاهتمام الذي يستحق، خصوصا أنه كان واحدا من أوائل الذين سيجعلون الجهاز العسكري المغربي حديثا من حيث التشكيلة، قبل أن تعصف به الأحداث السياسية المحلية والعالمية أيضا، ويصبح المغرب في فترة من فترات الفراغ بدون جيش تقريبا. يتعلق الأمر هنا بالقائد العربي بن الحاج الجيلالي، وكان لقبه هو قائد رحى البخاري، وهو الاسم الذي كان يحمله الجيش، لأن أغلب عناصره وقواته الأساسية والاحتياطية من «البخاري»، الذين شكلوا المورد البشري الوحيد لتزويد الجيش المغربي بعناصره، وهؤلاء شكلوا لوحدهم قوة ضاربة في أغلب الحروب التي خاضها المغرب.
هذا الأمر لا يعني أبدا أنهم كانوا بعيدين عن تذوق مرارة الهزيمة، خصوصا في المعارك المحلية. بالرجوع إلى التاريخ الرسمي، نجد أن أغلب الحروب التي دارت رحاها في المغرب كانت محلية بامتياز، وكان هدفها التأديب وإخضاع الجميع للسيطرة حتى لا تتحول البلاد إلى قبائل متناحرة، وكاد هذا الجيش أن يهزم في مناسبات كثيرة على يد شبان من القبائل المتمردة، وهو ما جعل الدولة لاحقا تفكر في إدماج هؤلاء الشبان في النواة العسكرية لتقوية الصفوف الأمامية للجيش.
في عهد المولى الحسن الأول وصل عدد الجنود الرسميين الذين يتلقون أجورهم من الدولة، حوالي سنة 1877، إلى أزيد من 25 ألف جندي، وهو وقتها رقم كبير جدا مقارنة مع إجمالي عدد السكان، ومع عدد أفراد الجيوش في الدول القريبة من المغرب.
في هذه الفترة دائما، كان أفراد الجيش يتلقون أجورهم من الدولة كل حسب رتبته، ولم يكن سهلا توفير الأجور بانتظام، خصوصا وأن الدولة مرت بمجاعات كثيرة، وأيضا لأن الفساد المالي في فترة من الفترات بلغ قدرا جعل خزينة الدولة تخلو تماما من السيولة، ورغم جهود الدولة، إلا أن الأمور بقيت على حالها، وتشرد الكثيرون من أفراد الجيش، فيما فكر البعض في استخلاص أجورهم بالقوة من القبائل التي كانت تعيش في شبه استقلال عن الدولة.
السياسة الضريبية القاسية التي اتبعها المغرب في تلك الفترة الحالكة، وحدها استطاعت توفير «كتلة» أجور بالمعنى الحديث للكلمة، وجنبت المغرب كارثة حقيقية، فقد كانت البلاد على مشارف حرب أهلية بسبب المجاعة، وسخط الناس على السياسة الضريبة للدولة، والتي لم تراع أوضاعهم المزرية، ولولا تدخل القصر في آخر لحظة لإعادة جدولة طريقة استخلاص الضرائب، لتصرف الجنود بأسلحتهم واستعملوها لاستخلاص أجورهم من الناس بشكل فوضوي مباشر.
ما يزكي هذا الطرح، ما جاء في كتابات بعض أصدقاء القايد ماكلين، العسكري الأسكتلندي الذي تستحق قصته أن تروى، خصوصا وأنه اعتزل الحياة العسكرية في جبل طارق، ودخل إلى المغرب في فترة حكم المولى الحسن الأول، ليتم تقديمه إلى محيط الملك، وهكذا سيتم اقتراحه كموظف مخزني فوق العادة، وأوكلت إليه مهمة تحديث الجيش المغربي. فقد جاء في بعض المصادر التاريخية أن القايد ماكلين كان قد اقترح تجنيد المغاربة بشكل عصري يجعل الجيش المغربي قادرا على منافسة الأجانب. لكن المثير أن القايد ماكلين وبرغم خبرته العسكرية، لم يتم اقتراحه وزيرا للدفاع أو «الحربية» كما كانت تسمى وقتها، وتم اقتراح أسماء أخرى مكانه، خضعت في تعيينها وعزلها للفشل في احتواء الأزمات، خصوصا بعد وفاة المولى الحسن الأول وتولي أبنائه بعده لمهام تدبير الدولة.
عندما تطالعون بعض المصادر التاريخية، خصوصا الرحلات الاستكشافية، ستخرجون بفكرة مفادها أن الأجانب، أيا كانت جنسيتهم، حاولوا تصوير المغرب على أنه أرض بدائية لا جيش فيها ولا وزارات. وهكذا كان بعض الكتاب قد أوغلوا في الاستخفاف بالمغرب، وكتبوا أن عناصر الجيش كانوا عشوائيين ولم يكن لهم زي موحد، والحال أن المصادر التاريخية، أكدت أن الجيش المغربي كان يرتدي زيا موحدا منذ سنوات مبكرة على تحديثه، وكان الفرق بين الرتب العسكرية في ألوان البذل بشكل يسهل تمييز أصحابها عن غيرهم. لكن المشكل الذي جعل الأجانب لا يتحمسون للكتابة عن المغرب بموضوعية على الأقل، هو جهلهم بما كان يقع في كواليس «المخزن» وعجزهم عن فهم منطقه في تدبير الأمور، حتى أن أحدهم كتب ما مفاده أنه لا يمكن أبدا التنبؤ بالقرارات المصيرية في المغرب، ولا يمكن أبدا معرفة حتى الذين يقفون وراء الهمس بها في أذن الملك، أو وزرائه ومستشاريه، وهو ما جعل آلية الحكم في المغرب غامضة، وبالتالي لم يكن سهلا أبدا معرفة كيفية تسيير الجيش المغربي، حتى بعد أن أصبح خاضعا لسلم إداري على غرار الجيوش الأوربية. فقد كانت التعيينات العسكرية، تتم وفقا للظروف وأداء الجيش، وليس وفقا للأداء أو الاستراتيجية، وهكذا وجد ماكلين نفسه بعيدا عن الجيش، وأيضا المهدي المنبهي الذي فشل أعداؤه في إبعاده عن القصر سياسيا، ونجحوا في تنحيته بعد أن فشلت قوات تابعة للجيش المغربي في اعتقال الثوار، ليجد المنبهي نفسه معزولا شفهيا عن منصبه وزيرا للدفاع. بكل بساطة.
«إيركمان»عسكري فرنسي علم الجنود المغاربة استعمال السلاح لأول مرة
اسمه اليوتنان «إيركمان»، هذا العسكري الفرنسي، كان قد جاء إلى المغرب سنة 1876، وكانت مهمته الرئيسية أن ينقل تجربة الجيش الفرنسي إلى المغرب، ولم يكن الحديث وقتها عن الحماية ممكنا. كل ما كانت فرنسا تريد للمغرب أن يفهمه وقتها، أنها دولة صديقة تعرض خدمات «مجانية» على المغرب، لإبعاده قدر الإمكان عن عيون منافسيها.
كان مخططا أن يبدأ هذا اليوتنان الذي وجد الجيش المغربي قد قطع الخطوات الأولى في التقسيم والتنظيم، مهمة تدريب عناصره على الرماية باستعمال السلاح. وتم اختيار مدينة مراكش، لاحتضان تلك التداريب.
لا يمكن الجزم ما إن كانت تلك المرة الأولى التي سيتم تجنيد العناصر المغربية بالسلاح رسميا، لأن بعض المصادر الأخرى تقول إن الجنود المغاربة حملوا البنادق فترة طويلة قبل مجيء أول خبير فرنسي إلى المغرب.
كان منظرا غريبا، أن يرى المغاربة فرنسيا، أو «نصرانيا» كما يسمي المغاربة وقتها كل الأوربيين، يتجول بين العناصر المغربية، ويعدل بيده طريقة إمساك شاب مغربي للبندقية، ويعلمه كيف يطلق النار بتركيز أكبر. لكن سرعان ما أصبح المنظر عاديا، خصوصا وأن هذا اليوتنان، أقام في مراكش خمس سنوات. وهي فترة طويلة بالمقارنة مع درجة الإلحاح المغربي على توفير نخبة عسكرية مدربة جيدا، لاحتواء الأوضاع المكهربة بالبلاد، سيما في السنوات الأخيرة من عمر القرن 19.
وتبقى «المدرسة العسكرية للمدفعية» واحدة من أولى المؤسسات العسكرية التي تأسست بالمغرب. فقد تم إنشاؤها في عهد المولى الحسن الأول دائما، وكانت أول معلمة عسكرية يتم إحداثها لإيواء العناصر المغربية المدربة على استعمال المدافع العصرية. ولأن استعمال المدافع الأجنبية كان أمرا جديدا في المغرب، فقد تعين أن تصرف الدولة المغربية أموالا طائلة لتمكين عشرات الشبان المغاربة، وكلهم تلقوا تعليما أوليا بسيطا جدا، من تلقي تكوين في الخارج، احتكوا فيه مع عسكريين فرنسيين كانوا قد تلقوا تعليما عصريا في مدارس عسكرية.
المثير أنه لا توجد إلى اليوم كتابات مغربية لهؤلاء الجنود الأوائل الذين أرسلتهم الدولة المغربية إلى فرنسا، أيام الحسن الأول، لتلقي تكوين عسكري، والأكثر من هذا أنه فور عودتهم من التكوين، لم يتم استغلال كفاءتهم ونقلها إلى أجيال الجنود المغاربة من بعدهم، بل تم إلحاقهم بمركز المدفعيات في انتظار التعليمات، واضطر المغرب إلى صرف أموال أخرى لجلب مدربين أجانب حتى يدربوا الجنود الجدد، على استعمال السلاح والمدفعية.
الجانب الوحيد الذي تم تدوينه بدقة في التاريخ المغربي، يتعلق بالبعثات المغربية والدول الأوربية التي استقبلتها، والمؤسف فعلا أنه لا أحد من الذين استفادوا من التكوين، كتب عن تلك التجربة.
يبقى عبد الرحمن بن زيدان، مؤرخ المملكة سابقا على عهد الملك الراحل محمد الخامس، واحدا من القلائل الذين وصلت إليهم تفاصيل تلك البعثات وعدد أفرادها. وكتب أن بعثة مغربية توجهت إلى مدرسة العلوم الحربية بفرنسا للوقوف على ما وصل إليه الجيش الفرنسي من تقدم، ومحاولة نقل التجربة إلى المغرب، وقد كان على رأس الوفد كل من الكباص وسكيرج والشاوي، وكلهم يمثلون نخبة المسؤولين المغاربة وقتها، ويتحدرون من عائلات متحكمة في توارث المناصب. هؤلاء كانوا يصطحبون معهم بعض عناصر الجيش المغربي الجديدة، حتى تعاين طريقة اشتغال العناصر الفرنسية وطرق التكوين، التي كانت بعيدة جدا عن مؤهلات الشبان المغاربة.
بالإضافة إلى بعثة الكباص، كانت هناك بعثة أخرى، تتمثل في الوزير الرغاي، وبناني، وعينوس، وقد ذكرت أسماؤهم هكذا في المصادر ولم تذكر أسماؤهم الشخصية. هؤلاء تم توجيههم إلى إيطاليا، حتى يقودوا عناصر «البوليس» عند عودتهم، وقد تمت هذه الرحلة سنة 1908، وشكلوا عند عودتهم «محاولة» مغربية خالصة لتأسيس أولى قوات الأمن التي لم يكتب لها أن تستمر، بعد الحماية، لأن البوليس الفرنسي كان قد سيطر على كل شيء.
هكذا أصبح الجيش المغربي حديثا بعد امتحانات عسيرة ومؤامرات سرية
هل كان ممكنا أن يصبح الجيش المغربي حديثا، لولا الانتكاسة الكبيرة التي مر منها المغرب بعد فرض معاهدة الحماية وقبلها بقليل؟
لا أحد يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال ما دام مندرجا في خانة الإمكان والظروف. لكن الأكيد، على الأقل، أن أولى القوات الرسمية المغربية، قد عانت كثيرا من تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية أساسا، وهو ما جعل الكثيرين يفضلون التخلي عن حياة الجيش بعد أن أصبحوا عالة على أنفسهم أولا، وغير قادرين على إطعام أبنائهم، خصوصا وأن المناخ العام في المغرب قبل سنة 1912 بقليل، جعل الكثيرين يفضلون المجهول على انتظار انقشاع الضباب. وهكذا أجهض حلم تحديث الجيش المغربي في وقت مبكر، كان ممكنا أن يتحول إلى ربح كبير للمغرب، لولا الانتكاسة السياسية التي مرت منها البلاد.
لكن الأكيد أن الجيش المغربي سجل على نفسه أقل قدر من الهزائم، وتجنب، عكس دول أخرى قريبة، كوارث حقيقية كانت لتجعل وضع أفراده أكثر وطأة.
عادت فرنسا لتجني ما زرعته بالمغرب أيام الحسن الأول، وكان القائمون على أمور الجيش الفرنسي يعلمون أن المغرب يتوفر على احتياطي هام من الجنود، رغم أنها، أي فرنسا، لم تكن تملك معلومات دقيقة عن مصير الذين تلقوا تكوينا في الرماية أو سلاح المدفعية، حتى تستعملهم في حروبها في أوربا، خلال مناسبتين: الحرب العالمية الأولى، ثم الثانية.
وهكذا كانت فرنسا قد أخذت عينات عشوائية من الشبان الذين توفرت فيهم معايير السلامة البدنية والقوة المطلوبة لخوض الحروب في مناخ مختلف تماما عن المناخ المغربي. وأصبح المغرب بالتالي، خلال العشرينات، يتوفر على أول جيل من المقاتلين المغاربة الذين تدربوا برصاص حقيقي وكادوا يلقون حتفهم في حروب ضارية، لكن الجيش المغربي لم يستفد من تجربتهم إلا بعد أن تم تأسيس الجيش الملكي بشكل رسمي، ليكون للمغرب جيل أول من العسكريين من أبناء البلد، تمت ترقيتهم وحصلوا على رتبهم في فرنسا قبل أن يزكيها المغرب، ويضيف إليها رتبا أخرى. ولعل أبرز الذين اشتغلوا في الجيش الفرنسي وخاضوا معه الحروب في الجبهات، وأوكل إليهم تسيير الجيش المغربي هم الجنرالات الذين كانوا يمثلون مع أوفقير مقدمة الأسماء الكبيرة، بالإضافة إلى المارشال أمزيان الذي جاء بتجربة مهمة من الحرب الأهلية الإسبانية، بعد أن احتك كثيرا بفرانكو الذي حكم إسبانيا بقبضة من حديد.
هؤلاء جميعا شكلوا ملامح الجيش المغربي الحديث. كيف كانوا يفكرون؟ وكيف كان طموحهم غير محدود ليقودهم إلى فصل آخر سادت فيه الانقلابات الداخلية والإعدامات؟
حين استنسخ مغاربة تجربة البوليس الإيطالي وأثاروا سخرية الفرنسيين
عندما عاد الوفد المغربي، كما ذكر ابن زيدان، من زيارة إيطاليا، حيث عاينوا سنة 1908 قوات الأمن الإيطالي، أي «البوليس»، كانت رغبتهم كبيرة في تأسيس قوات مستقلة عن الجيش، مهمتها الرئيسية السهر على الأمن داخل المدن الكبيرة في المغرب، وحماية مداخل المدن ومخارجها. وقد تم تخصيص زي رسمي لهذه القوات التي حاول أصحابها، جعلها مستقلة تماما عن الجيش ومختلفة عنه.
في بعض الكتابات الأجنبية، خصوصا المذكرات التي خلفها الأطباء ومزاولو مختلف المهن الجديدة بالمغرب، على الأقل وقتها، توجد إشارات ساخرة من النسخة الأولى للبوليس المغربي، خصوصا في مدينة طنجة. فقد نقل الإنجليز والإيطاليون سخريتهم من المحاولة المغربية، وقالوا إن العناصر المغربية كانت أبعد ما تكون عن القانون، حتى أن أحدهم، وهو رسام إيطالي استقر بطنجة لسنوات طويلة ورسم لوحات بها، ودفن بها أيضا، يقول: «يضحكني منظر بعض المغاربة الذين يتجولون بلباس موحد بين الأزقة هنا في طنجة. إنهم «مخازنية» فقط، يرتدون أسمالا مهلهلة وموحدة بينهم، وغالبا بقياس واحد، رغم أن طولهم متفاوت. شيء واحد كانوا يتقنونه جيدا وهو طريقة المشي وضرب أرجلهم مع الأرض بعنف مبالغ فيه، ليرعبوا الناس ربما. لقد كانوا جاهلين تماما بالقانون، ولاحظت في أكثر من مناسبة أنهم يكتفون فقط بمراقبة الناس، والبحث عن أنشطة لتزجية الوقت وطرد الملل، رغم أن هناك أمورا كثيرة تستحق أن يشرفوا عليها».
لكن ما فات هذا الإيطالي أن يشير إليه، هو أن هؤلاء الذين شكلوا النواة الأولى للأمن المغربي، نجحوا فعلا في وقف عدد من الأجانب الذين كانوا يحملون معهم أسلحة جاؤوا بها من أوربا، وبدون ترخيص، وقد كان أحد المحميين بطنجة واسمه بنغبريط، يعمل كمراقب لانتشار الأسلحة غير المرخص لها، ونجح فعلا في مصادرة بنادق ومسدسات من بعض الأوربيين، خصوصا الفرنسيين، واحتفظ بها، وبسجل يؤرخ لتاريخ مصادرتها وهوية صاحبها، وقد كان يتعين على الراغبين في استرجاع أسلحتهم الاتصال بشكل مباشر بالخارجية فور وصولهم إلى بلادهم، لتقديم مبررات عن حيازتهم سلاحا بدون ترخيص.
هذه أمور كانت تحسب للأطر السباقة للاشتغال في المجال، على الرغم من أن الإمكانيات التي اعتمدت وقتها كانت بدائية، وأيضا لأن الأطر المغربية كان ينقصها التكوين والدراية.
في قلب الحياة الخاصة لعسكريين ارتبطت أسماؤهم بالأساطير
بعض من كواليس علاقات رجال الجيش في ما بينهم، ظهرت جلية في ما نقله ابن الجنرال البشير البوهالي، وهو يحكي عن مسار عسكري انتهى في انقلاب الصخيرات سنة 1971، في واحدة من أكبر انتكاسات الجيش المغربي وامتحاناته العسيرة.
كان الجنرال البوهالي يهم بمغادرة منزله في ذلك الصباح متجها إلى قصر الصخيرات، لإلقاء آخر النظرات على الإعدادات الأمنية لاستقبال ضيوف الملك. التقى يومها بشخصيات عسكرية مغربية مهمة، ووزراء وسياسيين مغاربة أيضا. وحسب ما تداوله الذين عاشوا تلك المرحلة، فإن بعض الأسماء لمحت إلى أن هناك أشياء تطبخ في الخفاء، وكان أحدهم يهم بنقل الخبر إلى الجنرال البوهالي، لكن الأمر لم يتم، خصوصا وأن الأخير كان كثير الانشغالات يومها، ولم يكن وقته يسمح بالجلوس لوقت طويل وعلى انفراد مع الاسم الذي كان يريد التلميح إلى خبر الانقلاب.
الكولونيل الشلواطي أيضا كان واحدا من الذين عايشوا الحدث، بل وكان من ضحاياه. فإذا كانت نهاية البوهالي متمثلة في إصابته برصاص اعبابو، الذي قاد الانقلاب، في قلب العاصمة الرباط، بعد أن كلفه الحسن الثاني شخصيا بملاحقة الانقلابيين وإطفاء شرارة الانقلاب بشكل نهائي، فإن نهاية الشلواطي كانت أكثر مأساوية، خصوصا وأنه كان من الذين صدر ضدهم حكم بالإعدام ساعات بعد إفشال انقلاب الصخيرات.
يقول المحجوبي أحرضان، وهو بالمناسبة كان قد شغل منصب وزير للدفاع خلال سنوات الستينات، إن علاقته بعدد من الأسماء التي تم إعدامهم بعد انقلاب الصخيرات كانت متينة، وكغيره، فقد صدم عند علمه بتورط هذه الأسماء، ومن جملة ما جاء في مذكراته المثيرة للجدل، أن الشلواطي كان منتشيا جدا، ومقبلا على الحياة في الليلة التي سبقت الانقلاب، ولم يكن يبدو عليه أبدا أن حياته على المحك، أو أنه يعد مع أحد ما لحدث بحجم الانقلاب على الملك. ودائما بعيون أحرضان، فإن الجنرال أوفقير بنفسه، أثناء إعداده لانقلاب الطائرة الملكية، كان يحل الكلمات المتقاطعة في جريدة فرنسية، عندما كان ينتظر قرب جهاز الراديو، رسالة صوتية لإطلاق النار في الجو على طائرة الحسن الثاني.
هذه الجوانب الغامضة من الحياة الخاصة لهؤلاء العسكريين، الذين شكلت طريقتهم في التدبير أزمة حقيقية داخل دهاليز الجيش المغربي، وأثرت في أجيال من خريجي المدرسة العسكرية المغربية، تستحق أن نتوقف عندها، خصوصا إذا علمنا أن لحظة تنفيذ حكم الإعدام في حق المتورطين، أو المورطين الأوائل، في انقلاب الصخيرات، كانت مؤثرة جدا بالنسبة للذين رأوا أصدقاءهم يجردون من نياشينهم العسكرية، استعدادا لتنفيذ الحكم ضدهم، وثبت في ما بعد أنهم سيقوا فقط إلى الموت أثناء زوبعة تحديد الانقلابي من الملكي، وراحوا ضحية لعبة كبيرة من المؤامرات.
هؤلاء بطبيعة الحال كانت أسماؤهم وازنة إلى درجة أن البعض كانوا لا يملكون شجاعة انتقاد أصحابها حتى في أكثر الجلسات سرية وحميمية.
رسموا ملامح الجيش المغربي في نسخته الحديثة، وانقسموا ما بين الغيور والمنغمس في السلطة، والتقوا جميعا في نقطة النجاح المهني. فرقتهم السبل والأكيد أنهم لم يلتقوا في المصير أيضا.