شوف تشوف

الرأي

أغدا ألقاك

صوفيا المسيفي
تغريني الأشياء القديمة، الأشياء الخشبية التي صنعتها أياد قوية، الأثواب التي حاكتها أنامل حسناء بالحب والأمل. تغريني القطع التي لا قيمة لها غير أنها تنتمي إلى زمن ماض، وكان يمتلكها غرباء لا نعرفهم، كانت لهم حياة غير حياتنا، وأيام غير أيامنا، وقصص غير قصصنا. أشخاص ربما تعلقوا بهذه القطع، ربما كانت تعني لهم الكثير، أو ربما لم تكن تعني لهم شيئا على الإطلاق.
تغريني الكتب القديمة، الأوراق المصفرة أو المشقوقة من الجوانب، الكتب التي تنبعث منها رائحة الرطوبة وتلتصق أوراقها ببعض وكأنها تحمي أسرارها من التسلل خارجا.
أحن إلى شرائط الموسيقى التي كنا نحصل عليها بمشقة الأنفس، نستمع إليها بلهفة وقداسة، ننصت لمحتوى كلا الجانبين وننزعج إن حصل وعلق الشريط داخل المسجلة. نتبادلها في ما بيننا ونتباهى بالحصول على واحدة فور صدورها.
تغريني نوافذ البيت الخشبية التي لا تغلق بإحكام، نعيد طلاءها من فترة لفترة وكأنها عادة مقدسة، وكلما أعيد طلاؤها أكثر كلما استعصى إغلاقها أكثر فأكثر. والستائر، تلك الستائر التي ورثتها أمك عن أمها، مخملية بيضاء باهتة، تحمل عبق الأجداد، لا ترغب والدتك في التخلص منها، وكأنها قطعة من الماضي تنتمي إلى الحاضر والمستقبل. نزيلها من فترة لأخرى لتنظيفها بعناية وإعادتها لإطارها مرة أخرى دون التفكير بتعويضها بقطعة جديدة.
لم تكن الموضة تؤثر في الناس آنذاك، أو ربما لم يكن يصلنا جديد الموضة أصلا، كنا نحتفظ بنفس القطعة لسنوات عديدة، لتصبح جزءا منا وشيئا يشاركنا سحر الزمن.
كانت كل ستائر المنازل تتشابه، كل الديكورات هي نفسها، لم تكن أمهاتنا يحملن عبء تغيير الديكور بعد أن يرين قطعا جديدة في منازل الأخريات. كانت البساطة تسكن كل المنازل، تسكن كل النفوس وكل الشخوص. حتى تركيبة الشخصيات لم تكن معقدة كما هي الآن. كان الناس جد بسطاء في تكوينهم، في تعابيرهم، في كلامهم وأحاسيسهم، كان الفرح فرحا والحزن حزنا، والخيبة مجرد خيبة لا أقل ولا أكثر. لم يكن الناس يميلون لتعقيد الأمور، لتركيب المعاني أو التعمق فيها ليظهروا بمظهر الشخص العميق الفاهم العالم، لم يكونوا بحاجة لذلك كما هو بحاجة إليه اليوم. كانت الأشياء العميقة تبدو بسيطة للغاية وجميلة في نفس الوقت.
لا تزال رائحة فترة الظهيرة عالقة بأنفي أو برأسي من يدري، حين تمتزج رائحة الخبز بصوت مذيعة أخبار الظهيرة، ثنائي لا يمكنك التخلص منه أو نسيانه، ولا يمكن لتلك الفترة من اليوم أن تكون بدونه. يحين وقت الغذاء فيصيبك كسل جميل بعد امتلاء بطنك الصغير، تخطر ببالك فكرة صبيانية جدا تعلم مسبقا أنها محاولة فاشلة، تتظاهر بالتعب للظفر بقيلولة سعيدة وطويلة، لتفوز فطنة والدتك على عقلك الصغير الساذج، فتشير إلى الساعة بصرامة الكبار لتحمل محفظتك بدون تردد وتهم إلى حيث تنتمي بقية تلك الظهيرة.
أفتقد فطيرة التفاح بالقرفة التي كانت تعدها والدتي. الروائح شيء يعلق بالذاكرة بشكل لا يصدق، يجعلك تتعلق بتفاصيل وزمان ومكان تلك الرائحة وليس بالرائحة بحد ذاتها فقط. لذا نعم، رائحة فطيرة التفاح تجذبني بقوة إلى ذاك الزمن البعيد، إلى تفاصيله الجميلة، إلى ذراع أمي البيضاء وهي تخبز العجينة بخفة سيدة في الثلاثين، إلى فستانها البنفسجي الفضفاض وبقايا الدقيق الأبيض عليه، إلى ربطة شعرها المرتبة وإلى عينيها اللامعتين وهي تغني مع الست أم كلثوم المنبعث صوتها من الراديو أغنية “أغدا ألقاك”.
أفتقد الراديو، وأفتقد المجلات الأسبوعية، أفتقد لحظات انتظار صدورها عند بداية الأسبوع، وتلك اللحظة التي أجد الساعي وقد ترك إحداها في صندوق الرسائل. كان من الصعب الحصول على اشتراك أسبوعي بمصروف جيب قليل لا يكاد يبلغ الدراهم القليلة، لكن الشرائط المجلات والكتب كانت من أولوياتنا آنذاك، لم يكن أي شيء يضاهي امتلاكها وقراءتها بشغف ثم تبادلها مع الآخرين عندما يحين وقت ذلك. كانت فقرة المراسلة من الفقرات الممتعة في المجلة، النافذة الوحيدة التي تكتشف من خلالها وجوه غرباء يشاركونك نفس الاهتمام، لطالما اندهشت من جرأتهم على الظهور في المجلة بصورهم ومعلوماتهم الشخصية، لطالما فكرت في المشاركة أيضا لكن شيئا ما كان يحول بيني وبين ذلك، اكتشفت لاحقا أنه لم يكن سوى الأنا الذي يحمله المتفرج في قطعة كلاسيكية بإحدى دور الأوبرا.
أفكر في كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة، في كل الأشياء المنتهي أوانها وفي كل اللحظات الغابرة التي أفتقدها الآن وأتساءل بغرابة إن كنت سأفتقد ما أملكه الآن بعد عشرين أو ثلاثين سنة، هل سأفتقد تفاصيل يومي الحالي؟ ترى أسأفتقد تفاصيل أشخاص أصبحوا جزءا من حياتي الحالية؟ فكرة تصيبني بالهلع! هل سأفتقد لحظات كتابة هذه التدوينة؟ ربما سأحن لما لا يروقني اليوم، للأشياء التي تصيبني بالضجر، لوقت فارغ لا أجد ما أفعله فيه، لشخص لا يروقني جدا، لمذاق طبق مللته، لمنظر اعتدت رؤيته كل يوم وتمنيت أن يتغير، لنصيحة شخص يحبني جعلتني أنزعج.. فكرة تجعلني ممتنة لكل ما أملكه الآن ولكل ما سيختفي ويندثر في زمان آت وكأنه لم يكن يوما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى