نحن ودول الاتحاد الأوروبي، خصوصا فرنسا، لا يحكمنا المد والجزر فقط، بل لدينا اضطرابات تاريخية وأخرى اقتصادية تشبه أعراض الصداع التي تظهر وتختفي..
ففي الوقت الذي لا يزال هناك من ينظرون إلينا من شُرفة استعمارية متآكلة، ينسى الجميع أن فرنسا سبق لها أن توسلت المغرب لكي يقرضها مبلغا خياليا بالمعايير الاقتصادية لسنة 1579.
القصة وما فيها أن المغرب خلال فترة حكم أحمد المنصور، ملك الدولة السعدية وعاصمته مراكش، توصل بطلب رسمي من الملك هنري الثالث بالضبط يوم 16 يوليوز خلال تلك السنة، يطلب قرضا بقيمة 150 ألف دينار، وهو مبلغ خيالي وقتها، بالإضافة إلى طلب ترخيص لكي يتم السماح لفرنسا باستيراد كمية هائلة من ملح البارود من المغرب، والسماح للسفن الفرنسية بدخول المياه المغربية.
بالإضافة إلى هذه الطلبات، كان السفير الفرنسي الذي حمل رسالة الملك هنري، يرغب في أن يُفاتح الملك أحمد المنصور في أمر رهائن فرنسيين يوجدون في المغرب، إذ إن بعض البحارة في مياه مدينة أصيلة أوقفوا سفينة فرنسية تبحر في المياه المغربية بدون ترخيص مسبق، وأحالوا ركابها الفرنسيين إلى مدينة مراكش حيث تم الاحتفاظ بهم أسرى. وعندما نقل السفير طلب الملك هنري الثالث في إطلاق سراحهم، أخبره أحمد المنصور أن هناك رهائن مغاربة أيضا تم اعتقالهم في البحر وتحتفظ بهم فرنسا عندها. وتم إبرام صفقة تبادل الأسرى.
لكن المثير أن هنري الثالث، الذي كانت الرسائل المغربية تخاطبه بـ «طاغية الإفرنجة» أراد أن يعبر عن امتنانه الكبير للمغرب، فأرسل طبيبا لكي يشتغل في مهمة رسمية بالمغرب. وهذا الطبيب كان اسمه «د. أرنول دو ليسيل»، وكان يتحدث العربية مما جعل مهمة التواصل مع الملك والوزراء المغاربة سهلة، لكن مهمته كانت في غاية الصعوبة، لأن طريقة تفكيره كانت تختلف كثيرا عن طريقة تفكير عامة المغاربة. ورغم أن المغاربة كانوا سباقين إلى اكتشاف الطب واخترعوا قبل قرون أدوات الجراحة وبرعوا في علم التشريح، إلا أن «دو ليسيل» كان يعتقد أن المغاربة لم يكونوا يعرفون أي شيء عن الأدوية التي جاء يحملها معه والتي تعالج الصداع والحمى.
المثير أن هذا الطبيب بعد أن قضى سنوات في المغرب، عاد إلى فرنسا واعتزل الطب وبدأ يُدرس اللغة العربية للفرنسيين، وتم تعويضه في المغرب بطبيب آخر كان اسمه «إيتيان هيبر». وقبل هذين الطبيبين، كان هناك طبيب فرنسي في المغرب، بطلب من الملك السعدي، كان اسمه «كيوم بيرارد». والمثير أن هذا الطبيب الأول، الذي حل محله «دو ليسيل»، لم يكن يشتغل طبيبا في المغرب وحسب، بل كان يمارس أيضا مهمة سياسية رسمية أوكلها له الملك هنري في المغرب، وتتمثل في فهم طريقة تدبير الحكم في المغرب وإنشاء علاقات مع وزراء مغاربة وبعث اقتراحات إلى باريس.
قد تتساءلون عن مصدر هذه المعلومات. كان هناك رجل مغربي اسمه الوزير الفشتالي ألف مرجعا مهما طاله النسيان، يحمل عنوان «مناهل الصفا»، وفيه ذكر قصة هذا الوفد الفرنسي الذي جاء متوسلا في القصر الملكي بمراكش، ويطلب من السعديين السماح لسفن فرنسا باستيراد ما يحتاجه اقتصاد البلاد لكي يستعيد عافيته بعد حروب طاحنة في أوروبا.
ولولا الصفقة التي أبرمها «طاغية الإفرنجة» مع المغرب، والصفقات الأخرى اللاحقة، لربما ما كانت فرنسا لتعرف نهضتها الاقتصادية التي جعلتها تستعمر نصف دول القارة الافريقية، إلى اليوم.
ماذا وقع منذ ذلك التاريخ البعيد إلى اليوم؟ لا يزال الفرنسيون ينظرون إلينا بالنظارة الزجاجية المكسورة التي كان يضعها الطبيب «كيوم بيرارد». ورغم أن هذا الطبيب فشل في مهمته بالمغرب وغادره صاغرا، إلا أن أحفاده لا يزالون يصدرون القرارات هنا وهناك، وينظرون إلى ما وراء مضيق جبل طارق على أنه مستعمرة سابقة خُسرت في ظروف سياسية معينة لا أكثر.
يونس جنوحي