شوف تشوف

الرأيالرئيسية

أعراض جانبية لطلب العلم

لم يعد أحد يتحدث عن ملف الطلبة المغاربة في أوكرانيا، إذ إن اهتمام العالم بتداعيات الحرب تراجع كثيرا في الأشهر القليلة الماضية، ولا بد أن حقوق طلبة من جنسيات كثيرة سوف تتبخر، وليس حقوق الطلبة المغاربة فقط.

من بين الشروط التي التزم بها الطلبة المغاربة، قبل توجههم إلى أوكرانيا للدراسة، تسديد مصاريف للتأمين على الملف وعلى إقامتهم هناك. ولا بد أن هناك «فتوى» قانونية قد تُمكن أصحابها من بعض حقوقهم، كأن يحصلوا على تعويض عن الأشهر الطويلة التي جُمد خلالها مسارهم الدراسي، والقلق النفسي والمادي الذي عاشته الأسر المغربية أثناء البحث عن خطط بديلة حتى لا يضيع المستقبل الأكاديمي لأبنائهم.

هنا، مباشرة بعد الجدل الكبير بشأن قبول كليات الطب المغربية لملفات طلبة الطب في أوكرانيا، واحتجاج طلبة الطب المغاربة، على سيناريو إدماج العائدين معهم، حتى تبخر الملف مرة أخرى.

الطلبة المغاربة يدافعون عن موقفهم، دافعين بواقع أنهم التحقوا بكليات الطب بعد اجتياز مباريات انتقاء صارمة لا تختلف في شيء عن المرور من خُرم الإبرة، واعتبروا أنه ليس من العدل أن يلتحق بهم طلبة قادمون، دون مباريات انتقاء، فقط لأنهم عائدون من «بلاد الحرب».

المثير أن هذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها أمر مشابه، إذ إن طلبة مغاربة سبق لهم أن عادوا من بلجيكا، بعدما بُعثوا إليها سنة 1887، لكي يدرسوا هناك. وبعد سبع سنوات ونصف، بعثوا رسالة إلى الوزير أحمد بن موسى، أقرب الوزراء إلى السلطان الحسن الأول، يطلبون فيها أن يتدخل لإنقاذهم من التهميش الذي طالهم هناك في معهد لتدريس صناعة الأسلحة. وجاء في نص الرسالة التي نشرها المؤرخ والمستشار محمد المنوني سنة 1975، ما يلي: «فلتفهم سيادتك أن هذه سبعة سنين ونصف، ونحن مفقودين عن الأهل والوطن، والأعداء لا تنظرنا إلا بعين الاحتقار، حتى صرنا لا نستلذ طعاما ولا شرابا».

نص الرسالة الطويلة التي تشرح وضع هؤلاء الطلبة المغاربة، وما آل إليه وضعهم بعد توقف الإمداد المالي لاستكمال دراستهم، يُفهم منها أن كبار المسؤولين المغاربة قد نسوا أمر هؤلاء الطلبة الذين بُعثوا بأوامر ملكية لكي يتعلموا أصول صناعة السلاح ويشرفوا على مصنع فاس.

وبلغ يأس هؤلاء الطلبة أنهم ختموا رسالتهم إلى الوزير قائلين: «الله يجازيك بخير»، وهي نبرة توسل لم تكن متداولة في الرسائل الرسمية، خصوصا منها المرفوعة إلى أعلى سلطات البلد.

هؤلاء الطلبة المغاربة الذين لم يحظوا بأي فرصة للعودة إلى المغرب لرؤية عائلاتهم، عادوا فعلا، لكن بعد أن توفي منهم من توفي، وفي الأخير لم يتخرج إلا القليلون منهم، وحتى بعد عودتهم لم يستفد منهم المغرب أبدا ولم يشتغلوا في تطوير صناعة السلاح. بل منهم من أدمجوا في الإدارة وصاروا يمارسون الأعمال المكتبية المملة، رغم أنهم تلقوا تكوينا في التعامل مع آلات صناعة البنادق والذخيرة.

لكن هذا لا يمنع أبدا من تسليط الضوء على التجارب المضيئة. إذ أن تألق الطلبة المغاربة في الخارج ليس وليد اليوم فقط. إذ أن طالبا مغربيا اسمه الزبير سكيرج، كان قد ذهب إلى بريطانيا لدراسة الرياضيات والفلك والجغرافيا سنة 1933، وابتكر هناك جهازا فلكيا أسماه «ذات الكفين الأفقية»، لتتبع حركة الشمس بين الأبراج الفلكية.

هذا الفلكي المغربي لم يستقر طويلا في بريطانيا، وعاد سريعا إلى المغرب، وقدم اختراعه الذي اعتُمد، وصُنعت منه نماذج وضعت في الساحات الرخامية لبعض المساجد الكبيرة وقتها.

مات هذا الفلكي المغربي، ومات الطلبة المغاربة العالقون في بلجيكا، ومات حتى الوزير الذي طالبوه بإنقاذهم. لكن حركة الذهاب والإياب بين الشمال والجنوب لم تتوقف، و«الأعراض الجانبية» لطلب العلم في الأرض، لم تزدد إلا تعقيدا.

يونس جنوحي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى