أعتذر إليك ربي 45
ازدحام «المدينة».. والضجيج الذي يحدثه الباعة الذين يفترشون أزقتها الضيقة.. والأغاني التي لا لون ولا طعم لها المنبعثة من هنا وهناك، عشية يوم من أيام الصيف الحار، كل ذلك لم ينسني تكبر «القائد» الإسلامي وسوء أدبه.. بل إن لقائي به حفَّز ذاكرتي ورجع بها إلى سنوات عديدة قضيتها وسط «الإخوان»، كنت حينها أعتقد أني اهتديت إلى صراط الله المستقيم، غير أني في واقع الأمر كنت ضحية وهم كبير وفرية عظمى اسمها «الحركة الإسلامية»..
لم أعد أستطيع السير في أزقة «المدينة» النتنة، الممزوجة برائحة العرق المنتشرة في كل مكان بفعل حرارة الصيف.. وتلاصق الأجساد.. تذكرت حياتي في البادية.. اشتقت إلى أرض الأجداد.. إلى فضاء بدون أفق..
اهتديت أخيرا إلى مسجد قريب.. ولجت إليه مسرعا، مع أن وقت صلاة المغرب لم يحن بعد، لعلي أضع جسما مثقلا على الأرض ليستريح بعض الشيء.. شعرت وكأني أدخل إلى بيت الله لأول مرة في حياتي مع أني تعودت أن أقيم الصلاة رفقة «الإخوان» في مسجد «الكاريان».. انتابني «خشوع» لم أبلغه في صلواتي أيام كنت «مهووسا» بل «مجنونا» بـ«الدعوة إلى الله»، في دائرة «حركة» تتوهم أنها تريد إقامة الدين وهداية الناس.. وتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية البشرية..
حاولت أن أدفع شعورا غريبا تملك حواسي كلها.. إنه إحساس المرء بالأوبة إلى الله حين يكثر من الآثام.. وحين يشعر أن روحه قد أثقلها «رجس الشيطان».. وأنها باتت في حاجة إلى من يخلصها من أدران الحياة وأوساخها.. تناسلت الأسئلة في ذهني بشكل لا يطاق؟
هل ارتكبت ذنبا بانتمائي إلى حركة ابتدعها البشر.. وأمعنوا في نشرها باسم الله؟
هل أخطأت عندما عملت مع «أبو أيمن»، هذا المخادع المتسلط، الذي نجح في الانتخابات وأصبح برلمانيا بأصوات فقراء ومساكين الكاريان؟
هل كنت أدعو إلى الله أم أدعو إلى أناس نصبوا أنفسهم «أئمة» و«دعاة» «وعلماء» و«خطباء» باسمك يا الله؟
هل كنت أخدمك يا إلهي.. أم كنت أعمل بالليل والنهار من أجل أن يبسط «أبو أيمن» نفوذه على الناس.. وينال حظه من الدنيا؟
هل ساهمت في خداع أهل «الكاريان» وتوهيمهم بأن هذا «القائد» هو منقذهم من الضلال.. ومخلصهم من العذاب.. ومحررهم من سطوة الجهل.. والفقر.. والاستبداد؟
أجهشت بالبكاء.. ولم أقو على خنق تلك العبرات التي تتساقط على حصير المسجد المتهالك وكأنها تريد أن تغسله من أوساخ راكمتها فوقه أقدام المصلين.. أنا الذي تعودت على ترديد أدعية مأثورة لم تنفعني في شيء.. ربما كنت أدعو إلاها لم أعرفه حق المعرفة.. ولم أقدره حق قدره.. ربما كنت أتوسَّل إلى رب أجهله.. تهت زمنا عن الإله العالم بكل شيء.. والقادر على كل شيء.. والمحيط بكل شيء.. والذي وسعت رحمته كل شيء…
بعد كل هذا شعرت بدعاء صامت ينبع من أعماقي، لم أنقله هذه المرة من كتاب «الدعاء المستجاب»:
(ربي.. ندمت كثيرا أني سميت نفسي «إسلاميا» وأنت سميتني مسلما في وحيك المنزل من السماء.. فأنت القائل بسم الله الرحمن الرحيم.. «هو سماكم المسلمين من قبل»..
إلهي.. فرطت في كلامك زمنا طويلا.. واتبعت كلام «أبو أيمن».. اعتقدت جهلا أنه يتكلم باسمك.. وأنت القائل بسم الله الرحمن الرحيم: «واتبع ما يوحى إليك»..
ربي.. ندمت عن كل «كلمة» قلتها من أجل إعلاء شأن البشر.. حسِبَتْ نفسي الواهمة أنها اجتهدت في إعلاء كلمتك وبسط نفوذك في الأرض، فأنت أعلم بنفسي مني..
ربي.. أعتذر لك عن كل «جلسة».. وعن كل «خطوة» لم تكن في سبيلك.. وكانت في سبيل «حركة» لم توصلني إليك..
ربي.. لا تؤاخذني بما جنيته على غيري، فدعوتهم إلى دين اعتقدت أنه دينك.. وإلى سبيل ظننت أنه سبيلك…).
لا أدري كيف جرى هذا الدعاء على لساني عشية صيف ساخن.. وكيف نطقت به وسط بيت الله وأنا لا أبالي بوجود أحد.. أحسست أني تخلصت من حمل ثقيل.. شعرت أني أدخل إلى دين الله العظيم لأول مرة.. تأكدت أن ما عشته داخل تنظيم بشري ما هو إلا وهم، ونزوة شاب كان همه الدائم في هذه الحياة الفانية هو البحث عن كنه الوجود وحقيقة الأشياء، دون كلل أو ملل، فلم يجدها ـ بكل تأكيد ـ عند «الإخوان»..
أثناء الصلاة تذكرت لقائي مع «أبو أيمن».. تحسرت كثيرا أني لم أكمل معه الحديث لأنه كان في جعبتي الكثير والكثير.. وددت لو أني صرخت في وجهه وأعلنت له:
(إنك لا تستحق أن تكون «قائدا».. ولا «زعيما».. ولا أي شيء آخر.. أنت مجرد إنسان عادي جلست فوق كرسي «الزعامة» بأصوات الأتباع.. صفقنا لك لتكون زعيمنا.. تواطأنا معك لتلعب دور قائدنا.. ألَّفت ـ مع الوزير السارق ـ مسرحية اسمها «الجماعة».. أنت تمثل فيها الرئيس ونحن نلعب دور المرؤوسين.. صدَّقنا بعد أن طال علينا العمر أنك كذلك.. وأننا كذلك.. توهمنا كثيرا أنه بإمكاننا بناء دولة الإسلام.. ومجتمع العدالة.. نكون فيه نحن الحاكمين والقائمين بأمر الله.. ولا أحد غيرنا.. نحن الدعاة والقضاة.. اصطفينا أنفسنا لمهمة لم يختارنا الله لها…).
تمنيت لو أني قلت لـ«أبو أيمن» قبل أن أستقيل، بل رغبت لو أتيحت لي فرصة واحدة لأقول لأصحاب وأتباع «القائد» إن المغفلين من أمثالي ما كان لنا أن نصفق للزعيم لولا أنا رأيناكم:
(تقبلون يد الزعيم.. وتحملونه على الأكتاف.. وتفرشون له البساط.. وتتأبطون المنديل وفرشاة الأسنان تنتظرون خروجه من الحمام.. تخدمونه بالليل والنهار ولا تملون.. تقْبَلون بصدقاته.. وتتقبلون مزحاته وسخرياته.. تصبرون على تقلباته وغضباته.. تضعون أمامه السجادة لأداء الصلاة.. فرحتم بأن تصلوا وراء زعيمكم «الأمي».. صوتم عليه.. وتصوتون عليه دائما.. لأنكم تعتقدون أنه «الفذ» وأن الزمان لن يجود مرة أخرى بصنو له…).
المؤذن نادى لصلاة المغرب في «المدينة».. صدح بانتهاء النهار وغروب الشمس.. ونادى آخر بداخلي يعلن بزوغ فجر يوم موعود.. كأني لأول مرة أسمع الأذان.. ولأول مرة في حياتي أسمع القرآن..
«الله أكبر» قطعت كل متاهات التفكير ورسمت نقطة النهاية لتاريخ لن يعود أبدا.. فالله أكبر من كل ما ذكرت..
صلَّى صديقي «الإمام» في الركعة الأولى بقوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم:
(قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني، فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله. ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم. وأمرت أن أكون من المؤمنين. وأن أقم وجهك للدين حنيفا. ولا تكونن من المشركين. ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك. فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين. وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو. وإن يردك بخير فلا راد لفضله. يصيب به من يشاء من عباده. وهو الغفور الرحيم..) يونس الآية: 107.
ثم تلا «الإمام» في الركعة الثانية من آيات القرآن الحكيم:
باسم الله الرحمن الرحيم:
(وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا، يعلم ما تكسب كل نفس، وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار، ويقول الذين كفروا لست مرسلا، قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) الرعد الآية: 44.