حكى عبد الهادي بوطالب، في مذكراته، أنه كان يرغب في وضع توقيعه إلى جانب التوقيعات على وثيقة 11 يناير 1944، التي عُرفت لاحقا بـ«وثيقة المطالبة بالاستقلال»، لكن اسم بوطالب، شأنه شأن عدد كبير من الوطنيين المغاربة، لم يكن من بين الموقعين. فماذا وقع؟
كان عبد الهادي بوطالب اتصل بالمهدي بن بركة وطلب منه أن يمنحه الوثيقة لكي يوقع باسمه، ويُمكن أسماء أخرى داخل حزب الشورى من التوقيع. لكن المهدي بن بركة أخبره بأن الوثيقة، للأسف، لم تكن موجودة في الرباط ذلك المساء، ولم يكن يفصل عن موعد تقديمها للملك الراحل محمد الخامس سوى 11 ساعة بالضبط.
وهكذا عاد عبد الهادي بوطالب لكي يخبر أصدقاءه في الحزب بأن الوثيقة غادرت الرباط لكي توقّعها بعض الأسماء، وهناك رواية أخرى تقول إن بعض الوطنيين انتظروا الليل كله وباتوا جالسين قرب جهاز التلفون الأسود في انتظار الاتصال بهم للتوقيع، لكن لا أحد اتصل بهم، وفي الصباح رُفعت الوثيقة إلى السلطان محمد بن يوسف الذي وافق على تقديمها إلى الإقامة العامة الفرنسية.
وطبعا، لم يسكت الوطنيون الذين فاتهم التوقيع، وبينهم وطنيون لا ينتمون إلى أي تيار حزبي، ورفعوا شكايتهم إلى القصر الملكي، وأنصفهم الملك الراحل مقترحا عليهم توقيع وثيقة أخرى ورفعت بدورها إلى الإقامة العامة يوم 16 يناير.
هناك تحامل كبير على شخص المهدي بن بركة عندما يتعلق الأمر بالعصبية الحزبية والقومية التي كانت مستشرية في صفوف أعضاء حزب الاستقلال. بل إن استقلاليين عانوا من التهميش بعد 1956، لم يُخفوا سخطهم مما وقع في الكواليس، من تقديم أسماء وتغييب أخرى، رغم أن الذين قدموا تضحيات كبرى من أجل استقلال المغرب، لم يستفيدوا من غنيمة المناصب الحكومية.
حذر بعض العقلاء من أن تتحول وثيقة 11 يناير الشهيرة من وثيقة تمثل مطلبا وطنيا يمثل المغاربة إلى وثيقة حزبية صرفة، ورغم ذلك بدا واضحا أن المهدي بن بركة، الذي عكف على جمع التوقيعات بنفسه وكان أصغر الموقعين، لم يلتفت لتلك النصائح. إذ إن الإقامة العامة الفرنسية، عندما تتوصل بالوثيقة وترى أن جل التوقيعات من حزب الاستقلال، سوف تعتبرها مرافعة حزبية. لكن توصل مكتب المقيم العام، بعد أربعة أيام، بوثيقة أخرى تحمل توقيعات وطنيين بينهم علماء أفاضل، شكّل ضغطا إضافيا.
من يناير سنة 1944، تاريخ تقديم العريضتين، إلى مارس 1956، موعد استقلال المغرب، وقعت أحداث كثيرة بالكاد يعرف المغاربة اليوم تفاصيلها الدقيقة. عمليات المقاومة التي شكلت منعطفات حاسمة في التفاوض مع فرنسا، نسبها آخرون إلى أنفسهم رغم أنهم لم يجربوا في حياتهم إطلاق النار إلا في جولات رياضة صيد «الحجل». بينما منفذو العمليات الحقيقيون ماتوا في الظل رغم أن أجسادهم بقيت تحمل آثار التعذيب في أقبية مقرات البوليس الفرنسي.
وهناك أعضاء سابقون في حزب الاستقلال تعرضوا للمضايقات وحملوا كُرها مجانيا من أصدقاء الأمس رغم أنهم لم يفوزوا بأي نصيب من كعكة المناصب بعد استقلال البلاد. وهناك أسماء وقعت على وثيقة 11 يناير لم يبق لها من السياسة سوى صورة يتيمة لعلال الفاسي بعد أن صرفت كل أموالها لتمويل التظاهرات وشراء السلاح للمقاومين. بينما بعض الذين كانوا يلعبون على الحبلين، فازوا بالغنائم كاملة، ولم يجدوا حرجا، في نهاية حياتهم، في أن يلقوا المحاضرات على الطلبة حول تاريخ الحركة الوطنية، رغم أنهم لم يلتقوا يوما بالزعماء الوطنيين إلا في المناسبات الدينية.
وثيقة 16 يناير كان ممكنا الاحتفال بها لو أن القادة الشوريين قادوا يوما حكومة مغربية بعد استقلال المغرب.
الملك الراحل محمد الخامس صحح الوضع عندما أتاح للذين تم إقصاؤهم من التوقيع لكي يرفعوا وثيقة خاصة بهم، لكن فرصة الاحتفاء بالذكرى لم يُكتب لها أن ترى النور، شأنها شأن بطولات وطنية كثيرة ماتت ذكراها مع أصحابها ولم يعد يعرفها أحد.
يونس جنوحي