أطفال الكهف
شامة درشول
يقال إن الخبر الصحفي مهما بلغت أهميته له مدة زمنية هي أربع وعشرون ساعة، بعدها تصبح التقارير عنه مجرد تطوير للقصة الخبرية، أو تتحول من خبر إلى «فيتشر»، لكن «أطفال الكهف» في تايلاند، استطاعوا أن يدفعوا أهل الصحافة إلى الضرب بعرض الحائط ما آمنوا به لعقود، وأجبروا صحافة العالم على أن تبقي كاميراتها وأقلامها وعناوينها الكبرى مسلطة عليهم ولأسابيع.
بدأت الحكاية حين اختار مدرب شاب أن يخرج في نزهة مع لاعبي فريقه الذين يبلغ أصغرهم سنا إحدى عشرة سنة. المدرب نفسه كان في منتصف العشرين، كانت الرحلة من أجل استكشاف الكهوف، ولم يدر بخلد المدرب ولا فريقه أنهم سيصبحون محط أنظار العالم، فقد هجمت الأمطار الصيفية على المنطقة، وارتفع منسوب المياه، وعلق الأطفال ومدربهم في الكهف بين الحجر والماء. مرت تسعة أيام قبل أن يستطيع الغواصون تحديد مكانهم، تسعة أيام حوصر فيها الفتية بزاد قليل والكثير من الخوف، وحين وجدوهم كان عليهم أن يصبروا لأيام أخر حتى يستطيعوا إيجاد طريقة لإنقاذهم جميعا.
هي ملحمة حقيقية مرت منها تايلاند، ومر بها «أطفال الكهف»، غواصون أتوا من خارج تايلاند للمساعدة في إخراج الأطفال ومدربهم، رواد تكنولوجيا قفزوا على الفرصة من أجل الترويج لابتكاراتهم، أحدهم اقترح أن يتم إنقاذ الأطفال عن طريق استخدام مركب يتم التحكم فيه عن بعد، أطباء أجانب كانوا في عطلة في تايلاند قطعوا إجازتهم ليلتحقوا بالكهف، ويلبوا الواجب الإنساني، طباخون حملوا طناجرهم إلى محيط الكهف وبدؤوا يطبخون للأطفال ما يشتهون من أكلات ريثما يتم إنقاذهم.. كل هذا وذاك كانت الصحف والقنوات العالمية تنقله أولا بأول، لتلبي شهية المشاهد والقارئ، الصحافة غطت قصة أطفال الكهف، ومحاولة إخراجهم من المأزق بين الماء والصخر وكأنها كانت تغطي وقائع فيلم سينمائي، لا مكان للأخبار الزائفة فيه، الأخبار الزائفة مكانها فقط في عالم السياسة، أما في ما يخص أطفال الكهف، فالحدث أعاد للصحافة اعتبارها ومكانتها.
منذ أربع سنوات كنت أجلس بغرفة الأخبار بـ”راديو سوا” التابع للخارجية الأمريكية، زميلي في العمل أخبرني أن علينا أن نغطي خبرين أحدهما حول الطائرة الماليزية المختفية، والثاني حول فقدان مصريين في صحراء سيناء بينهم مخرج شاب. قلت له إن اختفاء الطائرة الماليزية لم يعد خبرا مهما، فقد مضى عليه أكثر من شهر، فقال لي جربي أن تكتبي عنه وسوف ترين تفاعل القراء معه، الخبر لا يزال مهما. وقد كان زميلي محقا في هذا، وفي خبر اختفاء مجموعة من الشباب المصريين ذهبوا في رحلة شتاء إلى صحراء سيناء، كنت أعتقد أنه لم يعد خبرا مهما فقد مضت عليه أيام لكني وجدت التفاعل عليه قويا فور نشره.
تذكرت هده النازلة وأنا أتابع بتمعن هذا الاهتمام الشديد للجمهور بقصة أطفال الكهف، وأحاول فك لغز اهتمامه بها، وتذكرت في تمعني ذاك اليوم الذي استيقظت فيه على خبر ضرب طائرات مدنية لرمز قوتها «الأبراج ووزارة الدفاع». لم أنم يومها، بقيت وعائلتي متسمرين أمام التلفزيون نلتهم كل ما يردنا من خبر عن الواقعة التهاما، نتنقل بين قنوات عربية، وفرنسية وأمريكية، لعلها تشفي ظمأنا لمعرفة المزيد. كنت أعتقد أنها حالة عابرة، لكن تسمرنا ذاك ظل لشهور، حتى أني أذكر أني وأخي أقلعنا عن مشاهدة الأفلام الأمريكية، وبات فيلمنا المفضل هو متابعة كل ما يتعلق بتداعيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
الصحافة ليست مجرد مهنة المتاعب كما توصف، وليست مجرد «صحافة الكيلو» كما ينظر إليها في المغرب، وليست مجرد «تبركيك» وخبر زائف، و«كور وعطي لعور»، ولا هي صحافة جرائد تتنافس على المبيعات، ولا تلفزيون يحاول جذب أعلى المشاهدات، ولا صفحة ولا حساب على الأنترنت يحاول تحقيق «البوز».. الصحافة هي ذاك البوق وتلك الشاشة وذاك القلم الذي ينقل للمواطن ما يحدث في العالم، ويشعره بأنه جزء من هذا العالم، وحتى إن لم يكن يساهم في صناعة القرار في هذا العالم، فالصحافة تحوله إلى مؤثر في صانع القرار نفسه.
للمغاربة تعبير جميل حين يريدون التعبير عن انتقامهم من أحد ما، يقولون: «غادي نخرجو فجورنان»، وسيبقى هذا المثل حيا، وفي حياته سيظل «الجورنان» حيا، حتى بمجيء التلفزيون، وقبله الراديو، وبعده الأنترنت، ستظل للجريدة مكانتها، مهما تغيرت الصحافة وتطورت، وهو ما لا يعيه أبناء هذا البلد، بل حتى أبناء المهنة ذاتها. فاليوم، وأنا أتابع أخبار «أطفال الكهف»، عثرت على دراسة تتنبأ بمستقبل الصحافة، وفيها أن جنسا صحفيا جديدا بدأ يتبوأ عالم الصحافة المكتوبة، وهو التقارير الصحفية التي تجمع بين روح التقرير الخبري، والتحقيق والقصة الإنسانية، وأن هذا الجنس الصحفي سيكون من ميزاته أنه سيقدم في صفحات كثيرة، لأنه سيشاكل قضايا كبرى بعمق أكبر، وبذلك تجد كبريات الصحف في أمريكا بدأت تنشر ملفات مفصلة ومعمقة عن قضايا معينة، أخذت زمنا في البحث والتحقيق، تقدم للقارئ، وبين هؤلاء القراء هناك صناع قرار يهمهم أن يطلعوا على الجانب الآخر من الحقيقة الذي لا تطلعهم عليه مؤسساتهم الاستخباراتية، أو موظفو أجهزتهم، ليس لديهم «الحس الصحفي» الكافي لفهم تطورات الأحداث بالشكل الذي ينبه صناع القرار في بلد ما إلى الخطر الوشيك. لذلك تجد الصحفي في البلدان المتقدمة له مكانته واعتباره، فالدولة تعرف جيدا أن هذا الصحفي دوره أن يكون مزعجا ومشاكسا، لأن الدولة في حاجة لمن يخبرها بالحقيقة قبل أن يخبر بها المواطن، وهنا أدعوكم إلى مشاهدة فيلم «دو بوست»، لتوم هانكس وميل سبيريت، والذي يؤرخ لقصة فضح جريدة لقضية أطيح فيها بالرئيس، لكن أنقذت الدولة، وكان من تآمر على الرئيس صحفي يتعامل مع أجهزة الاستخبارات، أراد أن يكون لصحيفته السبق في أن تسبق جريدة العاصمة في نشر الخبر الذي تحول إلى «ووتر كَيت».
بين «ووتر كَيت» وأطفال «الكهف كَيت»، مسافة كبيرة، فلا البلد هو البلد، ولا الجغرافيا هي الجغرافيا، ولا الزمن هو الزمن، لكن الصحافة كانت دوما هناك، لتقول للعالم ما يجب أن يسمعه.