شوف تشوف

الرئيسيةملف التاريخ

أطباء مغاربة وصلوا إلى العالمية

«كورونا» يُعيد مهنة الطب إلى الواجهة

««كورونا» الذي أعاد إلى الطب والأطباء مكانتهم التي كانوا يستحقونها في عالم نسي تماما أن صحة أفراده مهددة في أية لحظة. في هذا الملف، نعود بالتاريخ إلى الوراء لنقف على «بروفايلات» استثنائية صنعت مجد الطب المغربي وبداياته أيضا.
أطباء أوصلوا الطب المغربي إلى العالمية، وأخذهم المشرط والمبضع إلى غرف العمليات كما إلى صالونات الحكم والمسؤولية. منهم من أخذه الطب من كل شيء، ومنهم من كان الطب قنطرته لينفتح على آفاق أخرى، أكيد أنها لم تُنسه مساره كطبيب.
قصة الطب المغربي تستحق فعلا أن تُروى، لأن أطباء مغاربة صنعوا، منذ ستين سنة وأكثر، بصمة خاصة للتفوق على البلدان التي درسوا بها الطب، خصوصا فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، وأسسوا لتجربة مغربية خالصة انتقلت إلى الأجيال الأخرى..
هكذا صنع المغرب أطباءه، وهكذا عاش أطباء استثنائيون مساراتهم بين السياسة والطب، والدبلوماسية».

من زكرون الذي أمره الملك بعدم تقبيل يده إلى تويجر أفضل أطباء نيويورك
أطباء مغاربة وصلوا، بالطب وحده، إلى العالمية. بالنسبة للطبيب الحسن زكرون، الذي كان شابا ألمعيا، أحضره المهدي بن بركة بعد أن تعرف عليه في مطعم بالرباط، وأخذه معه سنة 1957 إلى القصر الملكي بالرباط لكي يعرضه على الملك محمد الخامس، فإن ولوج مهنة الطب كان صعبا بحكم وضعيته الاجتماعية الصعبة، حيث كان يتيما، لكنه كان متفوقا في دراسته بكوليج آزرو الذي غادره بنتائج مشرفة لكي يحصل على الباكالوريا في الرباط.
أوصى الملك محمد الخامس المهدي بن بركة بمساعدة الشاب في كل ما يلزمه، ما دامت نتائجه الدراسية مشرفة للغاية لكي يدرس الطب على نفقة الملك الراحل، الذي تكلف برسومه الجامعية وتكاليف سفره. ومن يومها والحسن زكرون بقي مدينا للملك الراحل محمد الخامس. في باريس، بعد إنهاء درجة الطب اتجه زكرون رأسا إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليتزوج هناك ويصبح طبيبا متخصصا في أمراض العظام. وعندما حل الملك الراحل الحسن الثاني بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1995، في آخر زيارة لها، التقى الدكتور زكرون في إطار استقبال صغير للجالية المغربية في نيويورك، بحضور شخصيات وازنة من الخارجية الأمريكية. وكان الملك الراحل الحسن الثاني عندما عُرض عليه مسار الطبيب الحسن زكرون، أمر على الفور بألا يقبل يده تكريما له واحتفاء بالرجل الذي صار طبيبا بتدخل إنساني من الملك الراحل محمد الخامس.
مسارات أخرى في الطب، طبعا لن يتسع المجال هنا لذكرها جميعا، لكن آخرها هو التكريم الذي حظي به الطبيب المغربي كريم تويجر، الذي حصل على أرفع جائزة للطب وإحدى أشهرها في العالم. يتعلق الأمر بجائزة «أفضل طبيب في نيويورك». هذه الجائزة حصل عليها أشهر الأطباء في مجالات تخصصهم وتحظى باهتمام كبريات الصحف العالمية، خصوصا وأن نيويورك كانت ولا تزال قبلة لأشهر وأمهر الجراحين في العالم، وتكون المنافسة بينهم شرسة للوصول إلى كرسي إدارة أقسام الجراحة في مصحات نيويورك التي تعتبر الأعقد والأكبر في العالم.

أطباء عالميون أشرفوا على علاج الملك والأمراء
أولهم هو الدكتور «كيرشنر» وهو طبيب جاء إلى المغرب بدعوة ملكية خاصة، وتعرف على الملك الحسن الثاني خلال سنوات السبعينات، وتعرف أيضا على الأمير مولاي عبد الله، وقد كان هو الطبيب الرسمي الذي يتابع حالة الأمير الصحية، خصوصا في أيامه الأخيرة، رفقة طبيب آخر هو البروفيسور Gai. كان الاثنان يترددان على الغرفة التي اختارها الأمير مولاي عبد الله لتكون شبه إقامة خاصة به في الفترات الحرجة التي عرفتها حالته الصحية قبل وفاته التي أحزنت الملك الراحل الحسن الثاني كثيرا.
لا تتوفر معلومات دقيقة بخصوص هذين الطبيبين، سوى أنهما يقومان بأبحاث مهمة على المستوى الدولي بخصوص عدد من الأمراض المزمنة، وتعرف عليهما الملك الراحل الحسن الثاني في إحدى رحلاته خارج المغرب.
بطبيعة الحال فإن علاقتهما الوطيدة بالملك الحسن الثاني والأمير مولاي عبد الله، لم تكن هي الأولى من نوعها. إلا أن علاقتهما بالقصر كانت وطيدة في الفترة التي مرض فيها الأمير، ليصدر الملك الراحل الحسن الثاني تعليماته بإيلاء رعاية خاصة للبروفيسور Gai الذي تكلف بالإشراف على حالة الأمير رفقة الدكتور «كيرشنر». تردد الأمير عليهما في الخارج في المراكز الصحية التي كانا يشتغلان معها في أوربا.
بالإضافة إلى طبيب يوغسلافي، لم ينه سنته الأولى في المغرب حتى غادر، وكان قد ربط صداقة مع الديوان الملكي أيام الملك الراحل الحسن الثاني وتعرف على رضا اكديرة، ولم يعرف أحد سبب مغادرته للمغرب، لكن الذين يروون قصته، يقولون إنه كان معجبا بالحياة في المغرب، ولم يكن يشتغل في أي مهام طبية تدخل في اختصاصه. تقول نفس المصادر إنه فقط تلقى دعوة من القصر الملكي لحضور أحد الاحتفالات التي يقيمها الحسن الثاني والتي تزامنت مرة مع ذكرى عيد ميلاد الأمير مولاي عبد الله، وبقي الطبيب اليوغوسلافي ضيفا على المغرب بعد أن اختار أحد فنادق الرباط للإقامة، واستقر لأشهر في المغرب قبل أن يغادر. أشار إليه عدد من الدبلوماسيين المغاربة في شهاداتهم وفي مقابلات صحفية، لكن هناك تضارب كبير بخصوص هويته أو اسمه. لكن الأكيد أنه جاء إلى المغرب في بداية السبعينات.
الدكتور «لي» Lee، والذي حل بالمغرب في نهاية السبعينات، وكان طبيبا من كوريا الجنوبية، لكنه لم يزاول مهنة الطب في المغرب. تعرف على عبد الرحيم بوعبيد وعلي يعته وبعض الجنرالات والفنانين أيضا. هؤلاء كانوا يلتقونه في المحافل الخاصة التي كان ينظمها الملك الراحل الحسن الثاني خلال نهاية السبعينات والتي كان يدعو إليها رجال الدولة المقربين منه من سياسيين ومستشارين ووزراء وفنانين وفقهاء.
تقول بعض المصادر إن الدكتور «لي» كان يربط علاقة جيدة بالسياسيين رغم أن مهمته الأساسية كانت هي الترفيه على الأمراء، فقد جاء إلى المغرب بعد أن تلقى دعوة رسمية من طرف أشقاء الملك الراحل الحسن الثاني، وكان يقدم عروضا في رياضات الدفاع عن النفس، والتي كان يتقنها كثيرا. وتعرف على الملك الراحل الحسن الثاني عن قرب، وكان مولعا بالثقافة الشرقية ومطلعا على كتب الطب القديم، وهو الأمر الذي كان يحلو للملك الراحل الحسن الثاني أن يناقشه معه في بعض السهرات التي كان يحضرها وزراء مغاربة وأصدقاء للملك.
كان غريبا أن يكون طبيب قادم من كوريا الجنوبية، حاضرا في بعض اللقاءات الخاصة، والأغرب أنه لم يزاول مهنة الطب في المغرب، ولم يكن من الأطباء الذين اشتهروا برعاية الحالة الصحية للملك الحسن الثاني أو الأمراء، وإنما اقتصر وجوده وظهوره على اللقاءات الخاصة التي كانت بعيدة تماما عن الملتقيات الرسمية.
المثير في قصة هؤلاء أنهم كانوا أطباء في الظل، ولم يخرجوا إلى العلن، بالإضافة إلى أن أدوار وجودهم تختلف بحسب الظرفية أو السياق الذي أدخل أسماءهم إلى عالم السلطة.

بن عبود طبيب ومُفكر وأول سفير.. رحل وفي قلبه غصة
قبل مائة سنة وسنة إضافية من اليوم، وُلد الطبيب والمفكر المغربي المهدي بن عبود في مدينة سلا سنة 1919. وفيها عاش مخاض ولادة الحركة الوطنية، ودرس بها ليفتح عينيه على النخبة المغربية الجديدة التي كانت مدينة سلا معقلا لها خلال بداية فترة الحماية الفرنسية للمغرب. أبان عن رغبة كبيرة في تعلم اللغة الإنجليزية بعد أن أتقن الفرسية وتفوق فيها خلال دراسته الإعدادية. وعندما حصل على شهادة الباكالوريا، ليكون من أوائل المغاربة الذين تحصلوا على هذه الشهادة، قرر مواصلة دراسته العليا بفرنسا، وهكذا التحق بالسنة التمهيدية الأولى بكلية الطب سنة 1940. وانتقل بعد ذلك إلى «مونبيليه» ليواصل الدراسة، وبعدها بخمس سنوات سوف تأخذه باريس التي وصل إليها سنة 1945 ليتعمق في تخصص الجراحة، ويركز على الأمراض الجلدية والتناسلية.
بمجرد ما أنهى بن عبود دراسته المعمقة في الطب وحصوله باقتدار على درجة التخصص، عاد سنة 1950 إلى المغرب ليفتح عيادته الخاصة بقلب مدينة الدار البيضاء. وهي تقريبا نفس الفترة التي عاد فيها الدكتور عبد الكريم الخطيب هو الآخر إلى المغرب ليفتح عيادته هو أيضا في مدينة الدار البيضاء.
خلال متابعته للدراسة في باريس، كان المهدي بن عبود أحد الأسماء النشيطة في التعريف بالقضية المغربية في باريس، وبدأ أنشطته هناك مع الحركة الوطنية سنة 1945، وعندما عاد إلى المغرب كان على رأس نخبة الشباب المغربي المثقف الذين طالبوا بعودة الملك محمد الخامس من المنفى وحصول المغرب على الاستقلال.
حتى أن القضية المغربية، حسب مصادر متطابقة، جعلته يشد الرحال بعد عودته إلى المغرب بسنة فقط، أي سنة 1951، إلى الولايات المتحدة الأمريكية لكي يدافع عن القضية المغربية أمام الأمم المتحدة، وهو ما دأب إليه شبان مغاربة آخرون بطبيعة الحال، كانت تحركاتهم جد مهمه لتشكيل ضغط على الحكومة الفرنسية لكي تقرر رفع يدها عن المغرب.
مباشرة بعد إعلان استقلال المغرب سنة 1956 عينه الملك الراحل محمد الخامس سفيرا مغربيا في الولايات المتحدة الأمريكية. لكن التجربة لم تُعمر طويلا، إذ أنه عاد إلى المغرب بعد إعفائه من السلك الدبلوماسي سنة 1962، وعاد بكل تلقائية إلى مزاولة الطب في عيادته بالدار البيضاء.
سرقته الدبلوماسية من مهنته التي كان يعشقها بشدة، وربط من خلالها علاقات وطيدة مع مكونات المجتمع المغربي بكل تموجاتها، مما جعله يصبح مناضلا من طينة خاصة، يضع مشرطه في كل مرة لكي يؤلف ويتمعن في فهم الخصوصية المغربية والإنسان المغربي عموما، لينال بجدارة لقب مفكر مغربي، خصوصا وأنه اهتم بالفلسفة منذ منتصف ستينيات القرن الماضي وأصبح يدرّس مادة «علم النفس المرضي» بجامعة محمد الخامس بالرباط، وألف كتبا في مختلف الاتجاهات الفكرية المعاصرة، قبل أن يسدل الستار على مسار هذه الشخصية المغربية الاستثنائية سنة 1999 تاركا خلفه طلبة في الطب تتلمذوا على يديه، وآلافا من الطلبة الذين شيعوه، بعد أن كانوا معجبين بمساره وزهده في السياسة واحتمائه بالطب كلما أبعدته الدوائر العليا، قبل أن يتدخل الملك مرات كثيرة لإنصافه.
وقد راج عنه أنه كان يقول دائما لزواره في مسكنه بالرباط إنه لم يتأسف يوما على الانشغال عن الطب الذي برع فيه، بالفكر معتبرا أن الواجب على كل طبيب أن يتجاوز ألم الأعضاء إلى مشاكل الفكر والقضايا الإنسانية.

بوجيبار أول مغربي تخصص في جراحة القلب.. والحسن الثاني كافأه
عندما نُفي امحمد عبد الكريم الخطابي في نهاية عشرينيات القرن الماضي إلى جزيرة «لارينيون» التي كانت تحت النفوذ الفرنسي، عوقب صهره الحاج بوجيبار بالنفي إلى مدينة الجديدة وإبعاده عن قبيلة أجدير بالريف التي كانت وقتها تقود حربا مسلحة عنيفة ضد الإسبان.
عاش الحاج بوجيبار في الجديدة وأنجب أبناءه بها، وأنجبُهم أبان منذ طفولته عن تفوق غريب في العلوم، وقرر مواصلة دراسته العليا بعد حصوله على الباكالوريا في الطب. وهكذا اقتنع الأب بدعم حلم ابنه وتركه يسافر إلى باريس في بداية الخمسينيات لكي يتابع دراسته ويتخرج طبيبا. لكنه أبان هناك عن مؤهلات كبيرة جعلته يتألق ويحقق أعلى الدرجات العلمية، وينفتح على اللغة الإنجليزية ويراكم خبرة أكاديمية كبيرة في الطب، توجت بتخصصه في جراحة القلب، وهو التخصص الأكثر تعقيدا خلال نصف القرن الماضي. أصبح الدكتور بوجيبار أول مغربي يدرس جراحة القلب ويتخصص فيها واستقبله الملك الراحل محمد الخامس بعد المنفى وشجعه على المضي قدما في تخصصه، حيث إنه كان من بين الأطباء العرب والمسلمين الأوائل الذين أجروا عمليات جراحية معقدة في تخصصهم.
كانت خلفية «الجهاد» الذي بدأه والده حاضرة بقوة لدى بوجبيار، حتى إنه عندما أراد الزواج مباشرة بعد عودته إلى المغرب لفتح عيادته الخاصة في أمراض القلب والشرايين، اختار أن يشد الرحال إلى مصر لكي يرى لأول مرة عائلة عبد الكريم الخطابي، ويتعرف على خالته زوجة المجاهد الخطابي. سوف يتزوج، بعد تلك الزيارة العائلية من عائشة الخطابي، أصغر بنات عبد الكريم الخطابي، وكان الأخير وقتها، أي سنة 1963 قد توفي. وعاد الطبيب الشاب إلى المغرب متزوجا من عائشة الخطابي التي رافقته في مساره وتابعت معه حلم العيادة الخاصة التي حولها لاحقا إلى أول وأشهر مصحة مغربية في المغرب التي تقدم إمكانية الجراحة على أمراض القلب، بعد أن كان إجراء ذلك النوع من العمليات يتطلب التوجه إلى فرنسا.
كان بوجبيار، حسب بعض من عرفوه عن قرب ومن بينهم زوجته عائشة الخطابي، يفضل الابتعاد عن الأضواء، حتى أنه كان يفضل قدر الإمكان الابتعاد عن الحفلات الخاصة والاكتفاء بجلسات مع زملائه وأصدقائه من الأطباء ورجال الأعمال. كافأه الملك الحسن الثاني مرة على تفوقه الأكاديمي ونجاح تجربة مصحته الخاصة بتعيينه على رأس الخطوط الملكية المغربية، وهي التجربة التي لم تستمر طويلا ليعود البروفيسور بوجبيار إلى الإشراف على مصحته الخاصة التي قضى بها آخر أيام حياته. توفي الدكتور بوجيبار قبل عشر سنوات تقريبا، تاركا خلفه وصية نفذتها زوجته عائشة الخطابي، والتي أوصى فيها بالتبرع ببعض تجهيزات مصحته الخاصة إلى مستشفيات الدولة ومساعدة مرضى القلب المعوزين على إجراء العمليات المعقدة على القلب. حيث كانت العيادة التي أسسها من الصفر، تتوفر وقتها على أحدث التجهيزات.

بنزاكين.. أول زير للصحة يشرف على علاج محمد الخامس
سبق في «الأخبار» أن تناولنا حياة الدكتور بنزاكين في ملف خاص رصدنا فيه جوانب من حياة هذا الطبيب المغربي الذي ارتبط اسمه بالطائفة اليهودية، حيث وشحه الملك الراحل محمد الخامس بعد عودته من المنفى على اعتبار أنه مغربي نجح في الطب، وعلى اعتبار أنه ابن الطائفة اليهودية التي أحبت الملك محمد الخامس وبقيت وفية للمغرب في أزمة المنفى.
وُلد أواخر العشرينات، بالضبط في الأسبوع الأخير من سنة 1928. كان محظوظا لأن أسرته كانت تتحرك في اتجاه أوربا كثيرا، ونجى من بؤس الأوضاع الاجتماعية التي كانت تخيم على المغرب في ذلك الوقت. وهكذا درس الطب في فرنسا، وعاد إلى المغرب ليجد البلد، خلال سنوات الأربعينات، غارقة في جو مشحون عنوانه المواجهة بين المغرب وفرنسا.
وُجهت له نصائح كثيرة من طرف أصدقائه الفرنسيين لكي يبقى بعيدا عن أزمات السياسة. لكنه اختار أن يندمج مع نخبة الرباط، وهكذا وصل إلى القصر الملكي ليُعجب به الملك محمد الخامس، باعتبار أنه من الجيل الأول للأطباء المغاربة. فإلى جانب اختياره للطب، كان أيضا منفتحا على الأدب والسياسة، وهو ما جعله يبقى قريبا من النخب في ذلك الوقت، وتتوجت علاقته بالملك محمد الخامس عندما اختاره ليكون ضمن فريق الأطباء الخاص به قبل الاستقلال وأيضا خلال السنوات القليلة التي عاشها بعد حصول المغرب على الاستقلال سنة 1956.
كان الدكتور بنزاكين هادئا، هكذا وصفه طبيب فرنسي كان قد اختار الاشتغال في أول مستشفى بُني في الدار البيضاء، وأضاف في مذكراته متحدثا عن الدكتور بنزاكين: «كان يُعلن أثناء تعريفه بنفسه أنه طبيب مغربي، وينتظر لكي ترتسم معالم الدهشة على ملامح مُخاطبه. سأله كثير من أصدقاءنا الفرنسيين بكثير من الاستغراب عن مساره، إلا أنه كان مراوغا جيدا، ويعرف كيف يضبط كلماته بدقة».
رغم أنه كان حاضرا بجانب الملك محمد الخامس بعد الاستقلال، إلا أن شخصيته لم تحظ بكثير من التمحيص، على الرغم من علاقاته الواسعة ونجاحه المهني المبكر، والسبب راجع حسب البعض إلى السور الذي أحاط به نفسه، خصوصا بعد انتهاء تجربته في أول حكومة مغربية كوزير للمواصلات.
في اليوم الذي تعين فيه الدكتور بنزاكين وزيرا في أول تجربة حكومية رسمية يعرفها المغرب بعد الاستقلال، كان هناك بعض من الاستياء لأنه لم يتسلم حقيبة وزارة الصحة في النسخة الأولى من الحكومة التي سبقت تعديل سنة 1956. كانت الأشهر الأولى التي سبقت التعديل امتحانا حقيقيا للدكتور بنزاكين، لأن بعض الإشارات وصلت إلى أسماع الملك الراحل محمد الخامس، تقول إن بنزاكين لم يكن راضيا بالوزارة التي عُين فيها، وأنه كان يطمح ليكون وزيرا للصحة، على اعتبار أنه من أوائل الأطباء المغاربة.
عندما سمع الملك محمد الخامس بالأمر، نادى على الوزير الأول وقتها، امبارك البكاي، وأخبره أن يتحدث باسمه مع الدكتور بنزاكين ويخبره بالثقة الكبيرة التي يضعها فيه الملك شخصيا، حتى يتجاوز حساسية عدم تعيينه وزيرا للصحة في النسخة الأولى المُعلن عليها لأول حكومة مغربية.
كانت الطائفة اليهودية في المغرب، والتي سيصبح الدكتور بنزاكين أحد أهم أعمدتها، على اعتبار أنه نموذج لمغربي يهودي نجح في الحياة المهنية والسياسية أيضا، تعتز بانتماء الدكتور بنزاكين إليها، خصوصا في أول استقبال رسمي خصها به الملك الراحل الحسن الثاني في فترات مبكرة من وصوله إلى الحكم، في خطوة لاحتواء جميع التيارات في المغرب.
كان الدكتور بنزاكين يتحدث لأطباء فرنسيين تعرف عليهم عندما عاد إلى المغرب، عن التحدي الكبير الذي يعيشه المغرب في ظل الحماية، والتمثل في خلق مرافق صحية لاحتواء حالات الأمراض والأوبئة التي كانت منتشرة في المغرب بكثرة في السنوات الأولى للاستقلال، حتى أن بعض المصادر تشير إلى أن الدكتور بنزاكين كان وراء إنجاح أول حملة قادتها فرنسا لتلقيح المغاربة واستعانت بمنشورات تحث على ضرورة التلقيح ضد بعض الأمراض الفتاكة التي كان الفرنسيون بيننا يخافون من الإصابة بها عن طريق العدوى.
انشغالات الدولة، جعلت بنزاكين، يخرج من التجارب الحكومية مبكرا، شأنه شأن وزراء مغاربة آخرين ظهروا في النسخ الأولى للحكومات، لكن صراعات السياسة عصفت بهم بعيدا، خصوصا وأنهم دخلوا باب الاستوزار عن طريق علاقتهم المباشرة بالملك الراحل محمد الخامس وليس عن طريق الانتماء الحزبي. ليكون الدكتور بنزاكين بذلك نموذج طبيب أدخله «مبضعه» إلى الوزارة، بدل قاعة العمليات.

سنوات الرصاص ترسل أباعقيل إلى يوغوسلافيا لممارسة الطب بلا عودة
في اعتقالات سنة 1973 التي طالت مجموعة من الشبان الاتحاديين الذين كانوا يناصرون محمد الفقيه البصري، صاحب الاختيار الثوري، كان الشاب محمد أباعقيل المنحدر من منطقة شتوكة، وهي نفس المنطقة التي ينتمي إليها المناضل الاتحادي محمد الفقيه البصري، يقبع في زنزانة ضيقة بعد اختطافه من أمام كلية الطب بالرباط للتحقيق معه للاشتباه في لقائه بالفقيه البصري بعد أن قضى عطلة الصيف في باريس. كان الطبيب الشاب الذي كانت تلك السنة آخر سنة له في تخصصه قبل التخرج طبيبا لم يلتق في الحقيقة الفقيه البصري، وكانت رحلته إلى فرنسا بناء على دعوة من اتحاد الطلبة لكي يرى إن كانت الآفاق هناك تسمح باستقباله بعد أن أصبحت الأمور تضيق على الطلبة اليساريين في المغرب، خصوصا وأن منهم من توقف مساره الأكاديمي بسبب الاعتقال والأحكام.
لكنه عاد إلى المغرب في بداية السنة الدراسية لسنة 1973 ليواصل الدراسة في السنة الختامية بكلية الطب ووقع ما وقع من اعتقالات. ورغم أنه أكد للمحققين أنه لم يلتق بالفقيه البصري وليس لديه أي اتصال به إلا أنه بقي مختطفا لأشهر، حتى أنه لم يُعرض على المحاكمة رفقة عمر دهكون وآخرين ممن ذكرت أسماؤهم في قضية مؤامرة 1973. وهكذا أطلق سراحه بعد التأكد من عدم صلته بالمؤامرة. لكنه استغل إطلاق سراحه، وبسبب مرارة التجربة وإحساسه بالظلم، قرر أخذ جواز سفره والسفر إلى باريس، وهناك التقى الفقيه البصري وحكى له ما وقع. ووجهه البصري بفضل علاقاته في باريس، إلى يوغسلافيا حيث واصل الدراسة وتخرج طبيبا. لكن المثير في قصة الدكتور محمد أباعقيل، أنه قرر عدم العودة نهائيا إلى المغرب، خصوصا خلال سنوات الثمانينيات. وبعد عودة الفقيه البصري سنة 1995 إلى المغرب، هم بعض الاتحاديين إلى جمع شتات المنفيين المغاربة ممن كانت لهم صلة بالموضوع منذ أحداث 1963 وما تلاها من محطات أخرى ساءت فيها العلاقة بين المعارضة والدولة، لم يُذكر اسم «أباعقيل» لأنه لم يكن حاضرا في الأجهزة الحركية. لكن زوجته التي كانت يوغسلافية من أصول بريطانية، والتي حاولت مراسلة عائلته في المغرب بعد وفاته في نفس السنة، جعلت أصدقاءه القدامى يتذكرونه بأسف، بعد أن انقطعت كل صلاته بالمغرب خلال تلك الفترة. وحسب مقال نشرته عقيلته السيدة آنا أباعقيل، لمجلة «ذي باك لايتن» باعتبارها طبيبة ناجحة هي الأخرى، تحدثت باقتضاب عن تجربة زوجها محمد أباعقيل وقالت: «كان مستقبله في الطب ببلاده ليكون متميزا جدا، لكن وفاته المبكرة وهو في عز انشغاله بأطروحة تخصصه في أمراض الشرايين جعلت خسارتي له خسارتين».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى