يونس جنوحي
طلبة الطب القادمين من أوكرانيا يرفضون مواصلة الدراسة في المعاهد الخاصة. رفضوا إذن المقترح وأداروا وجوههم للجهة التي لوحت به. بينما طلبة كليات الطب يرفضون بدورهم أن يتقاسموا الكراسي والمختبر مع «هؤلاء» القادمين من أوكرانيا.
وبين المعسكرين، يبرز خبر وفاة الرئيس الروسي السابق «ميخائيل غورباتشوف»، الذي بمجرد ما كان يذكر اسمه يبصق المتحمسون لليسار على الأرض لاعنين السياسة التي أتت به إلى نفس الكرسي الذي جلس فوقه ستالين ولينين من قبل.
غورباتشوف الذي تبدد معه حلم الاتحاد السوفياتي الكبير، وأطلق بنفسه رصاصة الرحمة على المعسكر الشرقي وصافح الرئيس الأمريكي واضعا نقطة النهاية على قصة نصف قرن من الحرب الباردة بين الغرب والشرق، توفي أول أمس في عز النقاش عندنا حول حق إدماج طلبة الطب المغاربة الذين يتابعون دراستهم في أوكرانيا، في كليات الطب بالمغرب.
رفض الالتحاق بالمعاهد الخاصة يكشف إشكال جودة التكوين الخاص والمعاهد الخاصة في المغرب. علما أن الأسر صرفت «ملايين صحيحة» على أبنائها لكي يتابعوا دراستهم في أوكرانيا، فلماذا لا يدفعون أقل مما يُطلب منهم في أوكرانيا، لكي يتابع أبناؤهم دراستهم بالقرب منهم وفي وطنهم؟
الرغبة في ولوج الجامعة المغربية، من بوابة كليات الطب، والالتحاق بالطلبة الذين ولجوا التكوين بعد مباريات استحقاق مضنية بشهادة الجميع، تخفي وراءها حربا باردة قديمة جديدة بين معسكري خريجي الطب، وهي الحرب التي امتدت منذ السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
إذ أن هؤلاء الطلبة الذين درسوا في الاتحاد السوفياتي سابقا، كانت شهاداتهم دائما موضوع نقاش، خصوصا مع انتشار الأقاويل التي تؤكد أنهم عند دراستهم الطب في روسيا ودول أوروبا الشرقية، يتم إخبارهم سلفا أنهم لا يستطيعون ممارسة الطب في الدول التي درسوا بها، ويعودون إلى المغرب لكي يفتحوا العيادات الخاصة لاستقبال المرضى. خصوصا في طب الأسنان وتخصصات الجهاز الهضمي والعصبي، أكثر ما يؤلم المغاربة!
غورباتشوف، الذي أصبح بإمكان الروس معه ارتداء سراويل الجينز الأمريكية وتذوق أنواع من الأطعمة لأول مرة في حياتهم، بعد سنوات من تحريم رموز الاتحاد السوفياتي لها بدعوى أنها «رأسمالية» مقيتة، كان من الرؤساء الذين دخلوا التاريخ. في المغرب، كان استظهار اسمه والإجراءات التي باشرها عندما أصبح رئيسا لروسيا، شرطا ضروريا للحصول على شهادة الباكالوريا. صورة الرجل كانت على صدر كتاب الجغرافيا رغم أنه رجل من التاريخ، ورغم ذلك فإن تذكر أنه صافح الرئيس الأمريكي وفتح أبواب روسيا على أوروبا، خصوصا ألمانيا، تحرك أسئلة كثيرة بخصوص ماهية الاتحاد السوفياتي سابقا.
آلاف الطلبة المغاربة الذين كانوا يرفعون شعارات اليسار قبل أربعين سنة، توجهوا بعد تكوينهم في الحركات التلاميذية، التي لا يعرف أحد مصيرها اليوم بعد أن صار تلاميذ المغرب غير معنيين نهائيا بالسياسة وطلّقوها بالثلاث وغادروا عالم الرفاق وعانقوا عالم «التيك توك»، وتوجهوا إلى روسيا أو يوغوسلافيا وأوكرانيا لكي يدرسوا الطب والصيدلة وطب الأسنان. كانوا يذهبون معجبين باليسار، ويعودون مغاربة مشتاقين إلى مظاهر الحضارة الغربية بعد أن اكتشفوا هناك أن «التأميم» ليس عادلا دائما، وأن مبادئ ستالين ولينين نفذت على الجميع إلا على النخبة التي تحكم باسم «الثورة».
ليست السياسة اليوم ما يجعل الطلبة الجدد يتوجهون إلى أوروبا الشرقية لكي يواصلوا تعليمهم العالي، بل شروط ولوج الكليات والمعاهد هناك هي التي تجعل الطلبة المغاربة يتوجهون إلى السفارات لوضع طلبات التأشيرة المخصصة للطلبة. الحرب الروسية الأوكرانية لم تنته بعد، وقد تحمل مفاجآت أخرى قادمة على الطريق، وربما قد ينتهي زمن الطب في أوكرانيا. أما «غورباتشوف» الذي مات أول أمس، فقد مات بالنسبة للعالم زمنا طويلا قبل اليوم.