خالص جلبي
يعتبر «نعوم تشومسكي» أن المثقف هو من حمل الحقيقة في وجه القوة. والمثقف، حسب المفكر البحريني «جابر الأنصاري»، هو من غادر حقل الاختصاص. وفي القرآن من يكتم الحقيقة يلعنه الله والملائكة والناس أجمعين. وسر الديمقراطية في المعارضة، ولا معارضة بدون فكر مستقل، ولا استقلالية في التفكير بدون حرية فكر. ولا قيمة لحرية التفكير بدون تعبير، والتفكير بدون تعبير يشبه الكمبيوتر بدون شاشة. وخياطو الفكر العربي اليوم موزعون بين أصناف؛ فمنهم من يرى التفكير حراما وخطيرا، ومنهم من يرى أن لا غبار على «التفكير» بحدود، أما «التعبير» فيجب أن يمر من قناة أمنية أو فقهية على المقاس، وعلى «التعبير» أن ينسجم مع أنغام الجوقة. وعلى المفكر أو الكاتب أن يقول قولا لا يوقظ نائما ولا يزعج مستيقظا، ولا يحرض مخبرا سريا على رفع تقرير سري سمي. وتبقى «فصيلة» شاذة من المفكرين من ترى الحرية على إطلاقها؛ فيسمح للجميع بحرية التفكير والتعبير والكتابة والنشر والاجتماع والتظاهر وبناء الأحزاب، بدون أي قيود. ولكن هذه الفصيلة لا تمثل وزنا أو تيارا يعتد به في المحيط الطامي من الجاهلين، في ثقافة تحرص بدأب على إغلاق مسام الأكسجين عن أي خلية عصبية تفكر؛ فلا يسمح للمواطن بفتح فمه، إلا عند طبيب الأسنان، فهذا أدعى للسلامة. وحسب «الكواكبي»، فإن الجماهير يتنازع قيادتها العلماء والطغاة؛ فمن جهل خاف، ومن خاف أصبح جاهزا للاستبداد، ومن علم تحرر. وفي الإنجيل تعلموا الحق والحق يحرركم.
وهناك أربعة نماذج للأنبياء: عيسى وموسى ومحمد وسليمان (ص). فأما «عيسى» فهو نموذج المثقف في وجه التراثيين النصوصيين الحرفيين، ومن واجه عيسى كانوا ثلاثة الكتبة والفريسيون والصدوقيون، أي جماعة النصوص، ورجال السلطة، ومن لا يؤمن بالآخرة.
و«موسى» كان نموذج المثقف في وجه الطغيان؛ فأمره الله بالتوجه إلى فرعون إنه طغى.
وكان «محمد» صلى الله عليه وسلم نموذج المثقف في السلطة، فقد صنع مجتمعا وبنى دولة من الأميين؛ فعلمهم الكتاب والحكمة وزكاهم وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
وأما «سليمان» فهو يمثل الروح الإمبراطورية الذي يهدد بذبح الهدهد أو ليعذبنه، أو ليخرجن أقواما من ديارهم وهم صاغرون، أو يتمنى أن يوهب ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فيغلق الطريق على الجميع، حتى امتحن فألقي على كرسيه جسدا، ثم أناب.
وكانت ملكة سبأ نموذج السلام الذي طوق التوتر بحكمة يمانية. وأسلمت ليس (لــ) سليمان، بل (مع) سليمان (لله) رب العالمين.
والمثقفون في العالم العربي اليوم ثلاثة أصناف: المثقف «الوهمي» و«المهاجر» و«الحقيقي»: فأما المثقف «الوهمي» فله ثلاث وظائف: «التبرير» و«التخدير» و«التزييف»، أي فلسفة الباطل وقلب الحقائق، أو لبس الحق بالباطل وهم يعلمون؛ فإذا نطق القائد بتافه من القول وضعها مع معلقات العرب التي يجب أن تكتب بماء الذهب، وإذا ساءت الأوضاع إلى الحد الأعظم، وصفها بأنها طبيعة التقدم، وإذا غصت الشوارع بالعاطلين عن العمل قال إنه الاستعمار، وإذا انهارت العملة الوطنية إلى عشر معشارها قال كل العالم في الأزمة نفسها؛ فهذه هي مهمة مثقف السلطة الذي يأكل من مائدة السلطان، وينشد الشعر في المناسبات البهية، ويمسح وجه الطاغية بمساحيق التجميل، محولا الغول إلى فتاة عارضة للأزياء. وأما المثقف «المهاجر» فهو على نوعين؛ فإما هاجر إلى «الخارج» باتجاه الديموقراطيات الحرة بإقامة وجنسية ولجوء سياسي، وإما هاجر إلى «الداخل» بالانسحاب داخل شرنقة خاصة، تحفظ عليه ما تبقى من حياته وكرامته، في ظروف جفاف صحراء الفكر العربية. وهي حكمة تفعلها الكائنات للبقاء. ويبقى المثقف «الحقيقي» الذي يرسم مصيره فيقتل بطريقتين: فإما تمت تصفيته جسديا، وإما تم اغتيال أفكاره اجتماعيا في لعبة «الصراع الفكري»، كما شرحها «مالك بن نبي» في كتاب «شروط النهضة»، ومن نجا من هذا الطاعون في الغابة العربية، التي تسرح فيها ضواري رجال الأمن وديناصورات السلطة، عاش مع أغانيه مثل المجنون. وهذا يشكل استعصاء في حركة تقدم المجتمع لا بد من كسره، ولكن كيف؟ ويقوم الإنسان في الوطن العربي أمام هذه الاستحالة بثلاث حركات: فإما انتحر بمسبحة المتصوفة، أو كهوف تورا بورا، أو حمى الطائفية. ومن ركب رأسه فعارك الأوضاع، انتحر في سجن يضيع فيه أفضل سنوات عمره. وهناك من ينتحر ليعيش في الماضي الزاهي بإطلاق لحيته، أو تقصير ثوبه، ومعها تقصر مداركه عشر مرات. وهذه الظلمات في العالم يبدو أن حلها واحد من أربعة:
(1) فإما الحل العراقي، أي الاجتياح الخارجي، بعد أن تجمد المجتمع في براد الاستبداد.
(2) وإما الانفجار بحرب أهلية مدمرة، وهي وصفة خلاص دخلتها الكثير من الأمم، وهو ما حدث في سوريا في الربيع العربي، الذي تحول إلى أوحال وشتاء زمهرير في الخيم المنصوبة.
(3) وإما ولدت نفس عظيمة فولدت الأمة من جديد، فالله يصطفي رسلا من الملائكة والناس.
(4) وإما دخل المجتمع مرحلة تحنط تقصر أو تطول، وهي علامة موت الأمم في التاريخ. ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
إن لفظة أمة تكررت في أربعة مواضع، وهي تشير إلى تجمع البشر على فكرة، فإما كانت أمة عظيمة مثل روما وفارس، أو أمة الأنبياء حين أنهى القرآن حديث الأنبياء، فقال وإن هذه أمتكم أمة واحدة. وإما جماعة من البشر على حياة اقتصادية معينة، كما حصل مع موسى، حين ورد ماء مدين فوجد عليه أمة من الناس يسقون. وإما كان رجلا واحدا بمثابة أمة (مشروع أمة)، كما جاء الحديث عن إبراهيم، إن إبراهيم كان أمة.