شوف تشوف

دين و فكر

أسماء الله الحسنى

إلياس بلكا
رأينا في الحلقة الماضية كيف أن الكون في حقيقته عبارة عن تجليّات لا تنتهي لأسماء الله تعالى. وفي تراثنا الإسلامي مكتبة مستقلة ومتخصصة في موضوع أسماء الله وصفاته، ولازلنا نحتفظ بكتب إبراهيم الزجاج اللغوي والحافظ أحمد البيهقي وعبد الكريم القشيري وأبي حامد الغزالي والفخر الرازي وأبي عبد الله القرطبي، وغيرهم ممّن كتب كتابا كاملا في الأسماء الإلهية، ناهيك عمّا جاء في كتب أخرى وعلوم أخرى كالتفاسير وشروح الأحاديث وكتب العقائد والتصوف، فكثير منها تعرّض لموضوع الأسماء قليلا أو كثيرا، كما فعل مثلا ابن حجر في فتح الباري عند شرح حديث أبي هريرة: إن لله تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل الجنّة.
ثم ظهر عندنا نمط آخر من التأليف، وهو نظم الأسماء الحسنى ليسهل حفظها، فبرزت منظومات عبد القادر الجيلاني وأحمد الدردير ومصطفى البكري وعبد الغني النابلسي، وأشهرها منظومة شمس الدين الدمياطي المعروفة بالدمياطية، لها شروح كثيرة.
وقد تواصل التأليف في زمننا هذا في الأسماء الحسنى، فكتب كلٌّ من: ابن صديق خان وأحمد عبد الجواد وعبد الرزاق البدر وعبد المقصود السالم وأحمد سعد العقاد وكمال عبد الحميد ومحمد الحمود وزين محمد شحاته ومحمد بكر إسماعيل وأحمد الشرباصي، كما نظمها شعرا بعض المُحدَثين، منهم: إبراهيم أبو خليل ومحمد تقي الدين الهلالي.
ومن أهم المشكلات العلمية المشهورة للموضوع: هل الأسماء توقيفية فنلتزم فيها بالنص الشرعي، أم هي اجتهادية فيجوز أن نستنبط أسماء جديدة؟ وهل الاسم هو عين المُسمى؟ وهل يجوز اشتقاق الاسم من الصفة، وكذا من الفعل، مع أن أفعال الله لا نهاية لها؟ وما المقصود بإحصاء الأسماء؟ وما معنى الإلحاد فيها؟ إلى آخر الأسئلة التي يجمعها سؤال المنهج: ما المنهج في إثبات الأسماء الحسنى وتفسيرها؟
ثم عادة ما يلجأ الكاتبون إلى شرح كل اسم على حدة، وبيان كيفية التعلق به –حين يصحّ التعلّق-، فالله مثلا رحيم، وعلى الإنسان أن يأخذ بحظّ من هذه الصفة فيكون رحيما بالخلْق أجمعين، وهكذا. وهذا باب آثار الأسماء في الكون وفي المؤمن.
ومن قضايا الموضوع أيضا: الاسم الأعظم، فقد جاءت الأحاديث بالتواتر أن لله اسما هو الأعظم والأجلّ والأكبر، مَن علِمه فقد انفتح له باب هائل من المعرفة بالله وبخَلْـقه، ويُستجاب دعاؤه، ويكون له تصرّف في بعض الأمور بإذنه، وبه فسّر بعض العلماء قصة سليمان لما أراد أن يحضِر عنده بفلسطين عرشَ بلقيس وهي باليمن: (قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك، وإني عليه لقوي أمين. قال الذي عنده علم من الكتاب: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، الآية).
ثم إنّ أشهر الروايات في عدّ الأسماء هي رواية الوليد بن مسلم التي رواها الترمذي، وتوجد روايات أخرى للبيهقي والحاكم، لذا اجتهد العلماء في إحصاء الأسماء، فكان منهم ابن منده وابن حزم وابن العربي وابن الوزير وابن حجر، وهؤلاء يتفقون على معظم الأسماء ويختلفون في أقلها. والسبب أنه لا توجد رواية صحيحة وثابتة وصريحة، بل رواية الوليد أحسنها، لذا حازت على قبول الجمهور قديما، وإن انتقدها بعض أهل العلم المعاصرين، خاصة من أصحاب التوجّه السلفي، لذا وضع بعضهم إحصاءات جديدة، لكنهم بدورهم اختلفوا ولم يتفقوا على لائحة واحدة للأسماء الحسنى، كما فعل الشيخ محمد العثيمين والعلامة عبد الرحمن السعدي ومحمود عبد الرزاق الرضواني.
مثلا من الأسماء في إحصاء ابن حزم: المِحْسان، وعند غيره: الجواد، والبرهان، والطيّب، والسرمد، حتى إنني جمعت من كلام العلماء وإحصاءاتهم لائحةً فاقت سبعمائة اسم من أسماء الله سبحانه. بل يرى بعض العلماء أن أسماء الله لانهائية، أي عددها لانهائي، وأن الحسنى هو أفضلها أو من أفضلها، على القول بجواز التفاضل في الأسماء.
لذلك نحتاج إلى عمل كثير في الموضوع، ومن نواح متنوعة، فالمطلوب مثلا:
• إخراج المؤلفات المخطوطة في الأسماء الإلهية وتحقيقها تحقيقا علميا.
• حصر كل ما ورد في السنّة مما له علاقة بالأسماء، وهذا عمل لم يقم به أحد إلى الآن بحسب علمي. وبعض الأسماء إنما ثبتت بالحديث الصحيح كالمُسعّر والمنّان والرفيق والسُّبوح والجميل.
• بحث مناهج العلماء الذين كان لهم اهتمام خاص بعلم الأسماء، على نحو ما فعل مشرف الغامدي في كتابه «مَنْهَجُ الإِمَامِ ابْنُ قَيِّمِ الجَوْزِيَّةِ فِي شَرْح أَسْمَاءِ اللَّهِ الحُسْنَى»، مثلا أتوقع أن تكون النتائج ممتازة إذا درسنا منهج ابن عربي وآراءه في الأسماء الإلهية.
• دراسة جوانب أخرى في الأسماء لم تحظ بالاهتمام الكافي، كالآثار التربوية، على نحو ما فعل عبد العزيز بن الجليِّل في كتابه «دِرَاسَةٌ تَرْبَوِيَّةٌ للآثَارِ الإِيمَانِيَّةِ وَالسُّلُوكِيَّةِ لأَسْمَاءِ اللَّهِ الحُسْنَى».
• تخصيص كل اسم على حِدة بدراسة مستقلة شاملة وعميقة، تتبع الاسم في الكتاب والسنة وفي أقوال العلماء وفي آثار الاسم الكونية والتربوية والإيمانية، بحيث تكون الدراسة موسوعة حقيقية.
• الدراسة البلاغية والإعجازية للتناول القرآني للأسماء الإلهية، كالتناسب بين موضوع السورة القرآنية الواحدة وأسماء الله الواردة بها. وبين أيدينا مثلا دراسة الأستاذ جمال أسطيري.
• دراسة خواص الأسماء، إذ لكل اسم تأثير خاص على ذاكره، فأنت إذا ذكرتَ كثيرا اسم النور يكون أثره فيك مختلفا عن ذكر اسم الغفور، عن ذكر اسم القريب، عن ذكر اسم الوهاب، أو المتعالي، وهكذا. وهذه أمور جرّبها المسلمون منذ قرون، ولا يزالون، فهي مؤكدة. ولعلّ من أحسن الكتب المعاصرة في الخواصّ كتاب عبد المقصود سالم رحمه الله. لكن لا يزال موضوع الخواص يحتاج لتدوين منظم ومرتب.
فالمقصود أنه ن
لابدّ من مقاربة موضوع الأسماء بمقاربة علمية شاملة، وباعتماد المناهج الأكاديمية في التأليف، إذ أكثر من كتب في الموضوع تناوله أساسا من منظور الدعوة والوعظ، لذا ينبغي تشجيع تسجيل بعض أطروحات الدكتوراه في هذا الموضوع، كما ينبغي كتابة مقالات في المجلات المحكَّمة.
والحاصل أن علم الأسماء الإلهية علم فخم مجيد، رفيع القدر، عظيم المكانة، وهو مع ذلك علم لذيذ لا يُشبع منه أبدا. فمن اهتمّ به وصرَف فيه جزء من عمره كان رابحا وعاش ومات سعيدا. بل هذا أعلى العلوم منزلة وأشرفها لتعلّـقه بالله سبحانه، وأيّ شيء أكبر من الله؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى