أسرار الخلية
بقلم: خالص جلبي
كما كانت الذرة أصغر جزء في المادة، سواء المعادن أو تشكيلات الحياة المعقدة، كذلك كانت الخلية حجر الأساس في بناء الكائن الحي بمجموعه العام، ومن الخلية يبدأ سر الحياة المحير، حيث نرى ظاهرة الحياة تدب في المادة الميتة، فتنبثق الحياة وتسير وتتعقد حتى تصل إلى تكوين أكرم الكائنات وأشرفها الإنسان. والخلية بتركيبها الخاص فيها ظاهرة الإعجاز، ومن أسرار الخلية المحيرة تنبثق بقية أنواع الحياة وأنماطها.
ويتشكل النسيج من مجموعة الخلايا التي تقوم بعمل واحد، ومن مجموعة الأنسجة التي تتضافر لتؤدي مهمة واحدة يتشكل العضو، ومن مجموعة الأعضاء يتشكل الجهاز، ومن مجموعة الأجهزة يتشكل الكائن الحي بإعجازه وتفرده وبنائه الفذ المدهش المحير.
تتكون الخلية على وجه العموم من حجرة يغلفها غشاء مضاعف، وتملأ هذه الحجرة مادة سائلة اختلفوا على حقيقتها، هل هي شبه غروية أم لا؟ وتستقر في هذه المادة السائلة المسماة سيتوبلازما النواة، وفيها يكمن سر الحياة ففيها كمبيوتر البرمجة والتحكم، وإذا جُردت من النواة لم تستطع أن تتابع سيرها في الحياة. والنواة بناؤها أيضا دقيق يحيط بها أيضا غشاء نووي مضاعف، ويستقر داخلها أهم شيء في الخلية وهو ما يسمى المورثات التي يتم بواسطتها نقل صفات النوع إلى ذراريه.
يبلغ وزن الخلية (وتمثلها خاصة نطفة الإنسان، التي يتم بواسطتها التلقيح مع بويضة المرأة لإنشاء خلية جديدة كاملة، يتم خلق الإنسان منها في ما بعد) تبلغ من الوزن 10- 9 غرامات، أي جزء من مليار من الغرام، وهي إذا قورنت ببيضة النعامة التي تبلغ من الوزن 100 غرام؛ فإن بيضة النعامة التي يتخلق منها ولد النعامة تكون أكبر من ناحية الوزن بـ100 مليار مرة، وإذا ما قورنت مع بيضة الضفدع فإن بيضة الضفدع أكبر من ناحية الوزن من نطفة الإنسان بـ100 مليون مرة، وهذه الأرقام توحي بمدى صغر النطفة الإنسانية التي تكون الإنسان، ولكنها من ناحية الفعالية والنتيجة شيء مدهش للغاية، لأن الخلية الإنسانية الأولى بمجرد أن تتكون تبدأ في الانقسام بشكل سريع ودقيق وهادف حتى تنقسم ما يقرب من خمسين انقساما، ويكون عدد الخلايا الإنسانية عند ذلك بالملايين وهي مستعدة للتخصص في ما بعد (في المتوسط 70 مليون مليون خلية).
يبلغ قياس أقطار الخلية بالميكرونات؛ فالكرية الحمراء مثلا والتي تشكل أهم خلايا الدم تبلغ وسطيا حوالي 7 ميكرونات من ناحية قطرها، والميكرون كما هو معروف يمثل جزءا من ألف من الميلمتر، أي أن قطر الكرية الحمراء يبلغ 7 أجزاء من الألف من المليمتر، وهذا رقم صغير جدا أمام أضخم وأكبر خلية في الجسم والتي هي البيضة التي يقذفها المبيض عند المرأة، حيث يصل قطرها إلى حدود 200 ميكرون، ولقد استطاع المجهر العادي أن يرى الخلية بشكل حجرة، وكان هذا حدثا مهما في تاريخ البشرية، حيث كشف أن الكائنات الحية تتكون من مجموعة هائلة من الخلايا التي تجتمع في ما بينها لكي تؤسس جهازا واحدا يقوم بوظيفة واحدة، ومن مجموعة الأجهزة التي تتناسق أيضا مع بعضها في العمل لكي يتكون الكائن الحي.
وتعتبر الحمات الراشحة أيضا من الخلايا الوحيدة وكذلك الجراثيم، أما الجراثيم فلقد استطاعت المجاهر العادية أن تراها، وأما الحمات الراشحة فلم تستطع المجاهر العادية رؤيتها، وبفضل التقدم العلمي استطاع العلماء أن يصلوا إلى اختراع مجهر عظيم في تكبير الأشياء حتى يتسنى للعين البشرية رؤيتها، فلقد أمكن بواسطة هذا المجهر الجبار تكبير الأشياء قرابة 30 إلى 100 ألف مرة ويزيد، وهكذا استطاع العلماء أن يروا ولأول مرة الحمة الراشحة التي كانت تسبب الكثير من الأمراض، ووجدوا أن للحمات الراشحة أنواعا وذراري وفصائل مختلفة، منها ما يسبب مرض الجدري وشلل الأطفال والحصبة وسواها (وكورونا- 19)، والمهم أنهم رأوا بأعينهم هذه الفيروسات التي كانوا يتهمونها بإحداث هذه الأمراض، وحتى أن بعض النظريات التي تدرس موضوع السرطان اتهمت الفيروس، أي الحمة الراشحة، بإحداث مرض السرطان، ولكن لم يحصل برهان قاطع يدعم آراءهم. واستطاع المجهر الإلكتروني فضلا عن ذلك أن يرى الذرات البروتينية الكبيرة التي تبلغ في أبعادها حدود 100 أنغستروم، وهو جزء من 100 مليون من السنتيمتر؛ ويرمز له بـ«Ao». وكذلك الأحماض الأمينية التي تبلغ حدود عشرات Ao أنغستروم، ولكن قدرة المجهر الإلكتروني تقف عند أبعاد الجوهر والتي هي في حدود 2- 4 Ao، وقد يتغلب على هذا العائق اختراع المجهر البروتوني الذي سيكبر أبعاد الأشياء في حدود 800 ألف مرة أو حتى المليون، والمستقبل هو الذي سيطلعنا على هذا الشيء.
تخصص الخلية
عندما تتخصص الخلية يحدث أمر على درجة كبيرة من الأهمية، فالخلية العادية نفسها تتحول لتؤدي دورا معينا يختلف باختلاف المكان الذي تقبع فيه كما تختلف باختلاف الزمن الذي تمر به، فهي الخلية العادية في الجسم تصبح على سطح الجلد متفرقة متوسفة تتساقط من الجلد بعد أن قامت بدور حمايته، وهي في العضلات مجموعة ألياف متراصة تقوم بعمل التقلص العضلي، وهي في البنكرياس تقوم بدور الإفراز الداخلي كالأنسولين والغلوكاغون، وهما هورمونان ينظمان السكر في الدم، وبدور الإفراز الخارجي حيث تصب عصاراته عن طريق قناة ويرسونك التي تلتقي مع القناة الكبدية الجامعة، حيث يصب الجميع في العفج وهي تحوي الخمائر الهاضمة لمواد الطعام الثلاث، أعني السكريات والبروتينات والشحميات، وهي في الدرق تقوم بفرز هورمون التيروكسين الذي يلعب دورا هاما في أشياء كثيرة منها الحرارة والاستقلاب، كما أن الخلية في الأمعاء الدقيقة تقوم بدور الامتصاص من الزغابات المعوية، حيث تنفذ المواد بسرعة مدهشة إلى داخل الزغابة بفضل الخلايا التي تمتص بسرعة، حيث تمر المواد بدورها إلى الأوعية الدموية واللمفاوية التي تنقل المواد بالتالي إلى مركز الجمارك العام وهو الكبد.
والخلية في جهاز التنفس تلعب دورا مهما في جعل الجدار للسنخ الرئوي حساسا جدا لمرور الغازات، وهما اثنان الأكسجين وغاز الفحم، حتى يتصفى الدم بشكل رائع ويصبح حاملا للأكسجين إلى الأنسجة العطشى له حتى يجري الاستقلاب والاحتراق ونشر القدرة وبث الحياة، والخلية المتمثلة في الدم بالكرية الحمراء هي التي تحتوي المادة عظيمة الفعالية وهي الهيموغلوبين التي تقوم بحمل الأكسجين إلى الأنسجة، وفي طريق العودة حمل غاز الفحم ليطرح عن طريق الرئتين، وبالتالي تخليص البدن من زيادته الفاسدة في الجسم، أو أن الخلية المتمثلة في الكرية البيضاء التي تقوم بفعل المناعة في الجسم وبلع الجراثيم الداخلية إلى البدن وإحداث المعركة الضاربة لصد الغزو الجراثيمي أيا كان مكانه في البدن، وذلك عن طريق انسلال الكريات البيض من العروق الشعرية إلى الخارج تحت الجلد، حيث تسقط تلك الخلايا المسماة الكريات البيض ميتة وهي تدافع عن البدن، وما القيح الذي نراه – في الحقيقة – إلا أشلاء تلك الكريات المدافعة عن العضوية في سبيل إنقاذ الجسم، وأما الخلية في العين فهي الحساسة بشكل رائع للنور والمتمثلة بشكل محير في العين بشكل المخاريط التي تتحسس للنور القوي والألوان والعصيات المتحسسة للنور الضعيف الأبيض فقط، والخلية في الأذن هي التي تشترك في تلقي السمع ونقله بواسطة الأعصاب إلى مراكزه العليا حتى يفهم على أتم وجه، والخلايا في العظام هي التي ترتشح بالكلس لتجعل العظم قاسيا يتحمل الضغوط والهزات. والخلايا في مراكز التناسل تتهيأ بشكل خاص، حيث تنقسم إلى نصفين وتستعد للتلقيح والتكامل من ناحية المورثات التي سنتناولها في البحث، وأبرزها شكل النطفة حيث نرى شكل النطفة مؤلفا من رأس وعنق وذنب، وحيث نرى البيضة الكبيرة التي سيلتقي بها الحيوان المنوي بشكل مدور كبير.
وأخيرا، عندما نتكلم عن الخلايا لننظر في الخلايا العصبية التي تتوزع في قشر الدماغ على ست طبقات ومن هذه الطبقات تتوزع الخلايا أنواع العمل، فشيء للحس وآخر للحركة وآخر للذوق وآخر للإشراف على الأعمال البدنية، وأما الإدراك والتفكير والتخيل ففي أي الخلايا يقع هذا العمل المدهش، إن العلم لا يستطيع أن يجيب عن هذه الأسئلة، لأنها ليست من اختصاصه تماما.
استهلاك الجسم للخلايا
يستهلك الجسم من خلاياه حوالي 125 مليون خلية في الثانية الواحدة، أي بمعدل 7500 مليون خلية في الدقيقة الواحدة، وكمثال على ذلك فإن أحد قطاعات الجسم وهو الوسط الداخلي الدموي يستهلك الإنسان من الكريات الحمر في كل ثانية حوالي مليوني كرية حمراء، أي أنه يستهلك في الساعة الواحدة أكثر من عدد سكان العالم بحوالي خمس مرات، وذلك لأن الدم الذي يصل حجمه إلى 5 لترات في جسم الإنسان يحتوي في الملم3 الواحد وسطيا على خمسة ملايين كرية حمراء، أي أن مجموع الكريات الحمر في دم الإنسان الواحد يبلغ 25 مليون مليون كرية، بحيث إننا لو أردنا أن نصف هذه الكريات جنب بعضها بعضا على خط واحد، ونحن نعرف أن متوسط قطر الكرية الواحدة يبلغ 7 ميكرونات، فإن الناتج معنا سيكون حوالي 175 كيلومترا، أي أن بإمكان هذا الخط أن يطوق الكرة الأرضية بأكملها 4- 5 مرات، وجرب أن تحسب ذلك إذا علمت أن قطر الكرة الأرضية 12756 كم و = 14 ,3.
عمر الخلية
يختلف عمر الكرية الحمراء التي تمثل نوعا من أنواع الخلايا عن أعمار باقي الخلايا، فهناك الخلايا التي لا تعيش إلا أياما معدودة بسيطة، وهناك الكرية الحمراء التي تعيش وسطيا حوالي شهرين، وهناك الخلايا التي تعيش ما عاش الإنسان، تولد بعدد محدود مقدر وتبقى كما هي لا تزيد إلا بحالة واحدة وهي النمو السرطاني الخبيث، كما أنها لا تنقص إلا بالآفات التي تدمر الخلايا وتتلفها، ولعلنا نريد أن نعرف ما هي هذه الخلايا؟ إنها أشرف خلايا الجسم وأندرها وأنبلها، إنها خلايا الجملة العصبية المركزية التي يقدر عددها بحوالي 100 مليار خلية عصبية على ما عدها العالم فون إيكونومو، وهي التي تسيطر على نشاط البدن وفعاليته جميعا وهي التي يكمن فيها النشاط الفكري، والتخيل الذهني، وشخصية الإنسان إجمالا، أو كما وصف الدماغ أحدهم فقال: هذا هو عجيبة الدهر الذي في تلافيفه بنيت المختبرات واستنبطت الاختراعات، وبين تعاريجه أسست معاهد العلم، وعلى تحاديبه نصبت ميادين الطيارات والسيارات، وداخل تجاويفه سطعت الكهرباء، كتلة صغيرة وسعت ما ضاق به الكون الفسيح، هذا هو رافع الإنسان إلى أعلى الرتب، وهذا هو أساس العلم والعمران. أو كما أراد أن يصفه العالم الأمريكي جودسون هويك، عندما ألقى محاضرة في معهد التاريخ بنيويورك في دجنبر 1957 فقال: «لو جمعنا كل أجهزة العالم من الرادار والتلغراف والتلفزيون والتلفون، ثم بدأنا بتصفير ما اجتمع لدينا حتى توصلنا بهذه الكومة الهائلة من الأشرطة والأجهزة المعقدة إلى حجم الدماغ، فإنها لا تبلغ في تعقيدها مثل الدماغ».
يتشكل النسيج من مجموعة الخلايا التي تقوم بعمل واحد، ومن مجموعة الأنسجة التي تتضافر لتؤدي مهمة واحدة يتشكل العضو، ومن مجموعة الأعضاء يتشكل الجهاز، ومن مجموعة الأجهزة يتشكل الكائن الحي بإعجازه وتفرده وبنائه الفذ المدهش المحير