شوف تشوف

الرأي

أساليب التغيير الاجتماعية

بقلم: خالص جلبي

في نهاية شهر ماي 2004م قتل في مدينة «الخبر» بالسعودية 22 شخصا على يد مجموعة من الشباب المسلحين لا ينقصهم الحماس الديني، بقدر الوعي والفقه الرشيد. وعندما يمتزج الحماس بالجهل، فهو خلطة شديدة التفجير. ولا شيء أخطر من طاقة متفلتة عن مدارها. وقبل 65 مليون سنة قضي على معظم الحياة في الأرض، بفعل مذنب شارد في الملكوت أصاب الأرض، فكانت قوة ارتطامه بقدر مليون قنبلة هيدروجينية. وكل كتلة يتعلق أثرها ليس بحجمها، بل سرعة صدمها. والرصاصة تقتل ليس من حجمها، بل سرعة اختراقها. ولا يحتاج الإرهاب إلى أكثر من ثلة من الشباب المتهورين الحالمين بأوتوبيا لن توجد قط. وعندما ينفصل الدماغ عن العضلات، ليس أمام الجسم إلا حفلات مروعة من التشنج العصبي. وداء الصرع هو فورة من هذا النوع، فيغيب الوعي ويبول المريض على نفسه ويتدفق الزبد على شدقيه، فلا يعلم ما حصل له. والتدين قد يكون جنونا وقد يكون عقلا، بقدر تمليحه بالوعي أو تسميمه بالتعصب. وقد تخرج نسخ من إسلام ضد الإسلام.
وأي طاقة، سواء (الماء) أو (الكهرباء) أو (الجنس) أو (الدين)، تخضع إلى ثلاث معادلات: بين (الحبس) و(التنظيم) و(الانفلات). فالماء يأسن مع الركود، ولكنه يولد الكهرباء بالسدود. وسد مأرب كان جنتين عن اليمين والشمال، وعندما أنفلت فاجأهم السيل العرم فمزقوا كل ممزق وأصبحوا أحاديث.
و(الكهرباء) قد تكون صاعقة في السماء كما يمكن حبسها بسلك، فلا يستغني عنها إنسان ومؤسسة وبيت.
و(الجنس) المحبوس يولد الهلوسات، مقابل الإباحية أو المنظم إلى الأسرة السعيدة. والطاقة الروحية غير المرشدة في التدين قد تنتج إرهابيين، مثل الصاعقة التي تحرق وتدمر، كما قد تنتج حضارة تشع بالعلم والتسامح والإنسانية. ورشة ملح إلى الطعام تجعله مستساغا، وقبضة منه تجعل النفس تعافه، وكذلك التدين والتشدد، والتفكير والتكفير، فكلها طاقات خاضعة لقوانين الله التي قد خلت في عباده.
وأبو حمزة الخارجي اقتحم مكة بالشباب المتحمسين، قبل أكثر من ألف عام، ولم يعتبر أحد أن عمل الخوارج كان جهادا في سبيل الله. كما لم يعتبر أحد أن الدولة الأموية كانت راشدية. وما يحدث في العالم الإسلامي هو نموذج مكرر لصراع الأمويين مع الخوارج. وأجهزة الأمن قد توقف الإرهاب حتى حين، ولكنها تفعل مثل حبة الأسبرين مع ارتفاع الحرارة، فيظن المريض أنه تعافى والجراثيم تتكاثر بدون توقف. وما لم يقض على فكر الإرهاب، فإنه سينفجر كل مرة على نحو أشد تدميرا وترويعا. وما تفعله أمريكا ضد الإرهاب هو تكرار لقصة الإسكندر مع القرصان، فهذا يغير على الناس بسفينة وذاك ينهب البحار بأسطول. ويتبادل عنف الدولة مع عنف الأفراد، في حلقة مشؤومة لا تكف عن التوسع.
وفي اليوم الأول من القرن الهجري الجديد الخامس عشر، اقتحمت مجموعة الحرم المكي بالسلاح، فدشنت هذا القرن بالعنف والدم، وقام الخوارج من قبورهم بعد أن أعادت الحركات الإسلامية المعاصرة إحياء مذهبهم، بدون أن تسمي نفسها خوارج.
ولا أجتمع في منبر أو نقاش أو محطة فضائية، منذ ثلاثين سنة، إلا ويتعجب القوم من دعوتي إلى أسلوب اللاعنف، وهو أسلوب الأنبياء عليهم السلام.
وعندما هجم الجنود على عيسى استل بطرس الحواري السيف فصاح به المسيح: «اغمد سيفك يا بطرس، لأنه مكتوب أن من أخذ السيف بالسيف يهلك». وعندما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون منه أن يسمح لهم بالقتال، كان جوابه لم نؤمر بقتال، وينزل القرآن بقوله: «كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة».
ويظن الناس أن دعوة المسيح تختلف عن محمد (ص) بشيء، وهو خطأ منهجي. فلو بقي محمد في مكة لكان عيسى، ولو غادر عيسى عليه السلام إلى المدينة لكان محمدا (ص).
والشباب الذين لا يفقهون دقة الفروق بين الأشياء، يفعلون مثل الجراح الذي يريد ممارسة الجراحة في سوق الخضرة، وكل من الجراحة والجزارة تستخدمان السكين، ولكن الفرق بين الاثنين مثل العمل في قاعة العمليات المعقمة وساطور القصاب.
وكل هذه الاختلاطات في الطب أو العذابات في الحياة مردها خلط الأمور ببعض، والحكمة هي وضع الشيء في مكانه. وحبة الأسبرين مفيدة في الصداع، ولكنها قد تسبب النزف عند مريض القرحة.
والدفاع عن النفس الفردي غير التغيير الاجتماعي السياسي، ومن تعرض لرجل يريد سلبه أو اغتصاب زوجته دافع عن نفسه، ولكن من انتقد الأوضاع فتم اعتقاله، وجب عليه أن لا يدافع ويصبر ويحتسب. وخطة الأنبياء واحدة أن مكان التغيير النفوس وليس الفؤوس. ومقولة «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» ليست آية ولا حديثا.
والدفاع عن النفس مبرر تجاه أي ظلم فردي، لحين حضور الدولة، وأن يكون الدفاع كفا للظلم وليس للثأر. وبين المنطقتين منطقة رمادية، وهي متى وكيف وضد من يمارس العنف؟ فإذا سمح الناس لأنفسهم في كل حين باستخدام القوة المسلحة والعنف الفيزيائي، لم يبق قانون ورجع الناس إلى وضع الغابة، وهو أمر غير محتمل. والدولة خلقت بالأصل لاحتكار السلاح من أيدي الناس، مقابل توفير الأمن لهم، ولكن دعاة (الفوضوية Anarchism) يرون أن الدولة مبنية بالأصل على القهر، والإكراه في طبيعته شر وسيئ، فيجب التخلص من الدولة واستبدالها بمجتمع بدون دولة.
والفوضويون أو الفوضوية لا تعني كما يوحي اسمها باللغة العربية الفوضى (Chaos)، بل تعني ذلك النظام الذي يقوم على التفاهم والتطوع أكثر من الجبر والإكراه، ولم يكن الإكراه خيرا قط. ولا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي. ولو لم تكن (الفوضوية كذا) مبدأ ساميا، ما اعتنقه فلاسفة كبار مثل تولستوي.
ومشكلة المقاومة المسلحة في وجه الظالمين خطيرة في عواقبها، مع أن الديمقراطيات الغربية أباحتها. وعندما تنجح مجموعة مسلحة في الإطاحة بنظام دموي، كما فعل كاسترو ضد باتيستا، ذاق طعم السلطة فاسترخى على الكرسي نصف قرن، واستمر يخطب كل سنة خطبته المملة بمناسبة الثورة، مع أنه لم يبق ثورة وثوار، بل كاسترو والعصابة، كما هو الحال في بقايا الجيوب الستالينية من الأنظمة الثورية في عالم العربان، حتى سلم الأمانة بقبض الروح، وتسلم أخوه راوول المقاليد وكان مختبئا يدير البلد، فكشف عن رأسه الخبيث.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى