أساساتُ غربٍ تتهدم
عبد الإله بلقزيز
يَدين الغرب، في قوته التي يرفل فيها، لفتوحاته التي ما توقفت عن الانهمار منذ نهايات القرن الخامس عشر للميلاد. من النهضة إلى الإصلاح الديني، إلى الثورة العلمية، إلى الرأسمالية والثورة الصناعية، إلى عصر الأنوار، إلى الثورات السياسية الكبرى وحركات التوحيد القومي، إلى قيام النظام الديمقراطي، فإلى الثورات العلمية والتكنولوجية المعاصرة. كان الغربُ هذا يتقدم في رحلة الخروج المديد من العصور الوسطى نحو بناء حداثةٍ جديدة باتت تفرض أحكامها على العالم، وبات معها هو سيد العالم الحديث والمعاصر الذي يُملي معاييرَه ويحْكُم. سر قوته هذه المكتسبات التي اجترحها على مدار نيفٍ وقرونٍ خمسة، من غير انقطاع، بل إن هذه مكْمَن تلك القوة ووَقودُها.
ومن كل هذه الأساسات (الفكرية، والعلمية، والاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية…)، التي ينهض عليها عُمران الغرب، يَنْماز أساسٌ منها بالفرادة والجاذبية وربما، بالبعض من «الإعجاز» الذي يتعصى على غير الغرب تقليدُهُ ومُضارعتُه فيه ويسمح للغرب، بالتالي، أن يَغْنم منه الكثير: لا في بناء صورته وسمعته فحسب، بل وفي توظيف الطاقة المتولدة منه كأساس. ونحن نعني بهذا الأساس النظام الديمقراطي؛ النظام الذي أنفقت مجتمعات أوروبا وشمال أمريكا ثلاثمئة عامٍ ويزيد في تنميته وتغذيته وتَعَهُده بالرعاية والتصحيح والتشذيب، قبل أن تستقر له حالٌ على ما استقرت عليه منذ استنقذتْه من الضربة النازية، التي كادت أن تُذهِب ريحه، في منتصف أربعينيات القرن العشرين.
ضُورِعَ الغرب في كثيرٍ من فتوحاته التي سبق إليها العالم، بعد أن فاضت عن حدوده إلى خارجه، أو بعد أن أقدم هو – بعساكره ثم بتفاعله مع العالم الخارجي- على أن ينقل بعضها إليه. جارهُ بعضُ العالم في الثورة الصناعية بعد أنِ انتقلت إليه الرأسمالية والتقنية، فأفلح في توطينها وفي تنمية عملية الإنتاج والتقدُم بها إلى الحدود التي سمحت له بمنافسة الغرب الاقتصادي. ذلك ما نجحت فيه بلدان مثل اليابان وروسيا ثم الصين وكوريا الجنوبية والهند والبرازيل… والبقية تأتي.
وجَارتْه بلدان أخرى من خارجه في التنمية العلمية والتكنولوجية، حتى أن برامج البحث العلمي في بعضها تكاد أن تبذ نظيرتَها في بلدان الغرب بذاً، على نحو ما هي عليه الحال – اليوم- مع اليابان والصين والهند…
وضارعتْهُ أخرى في تحقيق ثورة اجتماعية- سياسية خرجت بها من العصور الوسطى – نظير ثورات الغرب- من طراز الثورات البلشفية الروسية، والصينية، والفيتنامية…
وجارتْهُ أخرى في قدراته على بناء الجيوش الضخمة والقدرات العسكرية الاستراتيجية، على نحو ما استطاعتْهُ روسيا السوفييتية والصين والهند وباكستان.
وضَاهتْه مجتمعاتٌ أخرى في تقديم إنتاج فكري وأدبي وفني رفيع لا يَقِل عمقاً وبهاءً وجاذبيةً عن نظيره في الغرب، على ما بين العالميْن من فوارِق هائلة في الموارد المتاحة. وذلك ما يصدق، مثلاً، على بلدان مثل اليابان، والهند، وروسيا، والصين، وأمريكا اللاتينية، والعالم العربي.
ولكن قلما أمكن بلداناً أخرى، من خارج دائرة الغرب الأوروبي- الأمريكي، أن تضارعه في مضمار البناء الديمقراطي إلا في حدود جزئية (اليابان، الهند، المكسيك…). أما غير هذه من الدول التي تزعم انخراطها في المسار الديمقراطي فلم تأخذ من الديمقراطية إلا أدواتها وقشورَها، فيما هي أعرضت عن مبادئها الأساس وروحها لتتخذ منها طلاءً خارجياً يُخفي الجوهر التسلطي لنظام الحكم فيها!
بهذا الرأسمال السياسي الديمقراطي الثمين – الذي هو، في الوقت عينه – رأسمالٌ أخلاقي- بنى الغرب صورتَه كمدنيةٍ متقدمة في مضمار صوْن حقوق المواطَنة وحقوق الإنسان، وكمرجعٍ كوني للحداثة السياسية على الرغم من الجرائم المنكَرة التي اقترفتْها دولُه – ولا تزال تقترفها- خارج حدود الرجل الأبيض.
لكن هذا الأساس الكبير، ضمن أساسات عمران الغرب، ما فتئ أن بدأ يتهدم منذ حقبة ما بين الحربين في النصف الأول من القرن العشرين. والحق أن ملاحظة الخلل الداب فيه انطلقت منذ نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر؛ مع كل من ماركس وأليكسي دوتوكفيل وجون ستيوارت مل، قبل أن تبدأ تناقضاتُه ومفارقاتُه في التبدي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. كانت النازية والفاشية أول شرخٍ أصاب ذلك العمران، ثم تتالتِ الحلقات مع العنصرية تجاه الأقليات داخل بلدان الغرب، ومع الفساد السياسي للنخب الحاكمة، ثم استفحال أزمة التصويت والمشاركة السياسية، وإعدام مبدأ الفصل بين السلط، وتحوُل الأحزاب إلى مقاولات سياسية؛ ثم أخيراً، تصنيع النخب السياسية من خارج الحقل السياسي (الحزبي): من بيئة المال والأعمال! وما خفِيَ أعظم.