تارة يبشرنا وزير القطاع بنظام أساسي جديد سيظهر قريبا يقول إنه يحتوي بين دفتيه حلا لجل مشاكل القطاع، وتارة أخرى ينقل حرفيا ترف المدرسة الفرنسية لنظيرتها المغربية المعطوبة، ثم ينتقل بعدها لأخذ صور مبهرة في زيارات مرتبة سلفا ليعطي الانطباع بأن المدرسة العمومية بخير، مع أن المطلوب اليوم وقفة حقيقية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وعدم ترك التعليم العمومي فريسة سهلة لتعليم خصوصي يوسع مساحته بشكل متسارع حتى في الطبقات الاجتماعية دون المتوسطة، ونفسية مهزوزة لأطره ومنتسبيه بمختلف درجاتهم.
وإذا لم يفعلها السيد شكيب بنموسى ويتفاوض بقوة مع رئيس حكومته لخطف مكاسب قوية لرجال ونساء ميدانه وإرجاع بريق المدرسة العمومية، فمن غيره سيفعلها، وهو الرجل الثقة، بئر أسرار المملكة، والعارف بأوجاع البلد كلها اقتصادا وتنمية في القرية والمدينة؟ فهل سنصلح أعطاب التعليم مثلا بحصص الأنشطة الاعتيادية والحركية وقرارات باهتة لا تنفذ لعمق أزمة التعليم المغربي بل تزيد الفرقة والضغينة داخل الجسم التعليمي؟، كمثل منح زيادات في الأجور لفئات محدودة نظير مجهودها وكأننا في معمل للسيارات ولسنا في قطاع المفروض أن كل واحد فيه يجب أن يكون على أكبر مستوى من الفعالية والعطاء، ولا مجال للتساهل مطلقا في المردودية.
لقد حان الوقت لنشير بالأصبع لأصل السرطان الذي ينخر التعليم العمومي، والذي يخجل الجميع من الإشارة له خوفا أو طمعا، إنه رجل التعليم العمومي في شقيه التكويني والمالي، فاليوم يمكنني أن أراهن أن عشر الهيئة التدريسية الحالية في التعليمين الابتدائي والثانوي لا تصلح أصلا للتعليم لهزالة مستواها المعرفي، خصوصا في اللغات والعلوم، وعشر آخر يمارس مهنا حرة أخرى مدرة للدخل من فلاحة أو تجارة أو تسيير مقاولات أو وكيل عقارات بجانب التدريس كوظيفة ثانوية ذات دخل قار، وعشر ثالث، في المدن خصوصا، يلهث في المدارس الخصوصية لزيادة الدخل أو ينهش جيوب الآباء بالساعات الإضافية دون رحمة أو شفقة وبوقاحة منقطعة النظير، وهم معرفون لدى رؤسائهم ومن يستطيع لجمهم؟ طبعا دون أن ننسى فئة الأشباح وهيئة الريع النقابية التي تستفيد من التفرغ أو حصص جد مخففة، بينما فئات عريضة تعاني الأمرّين في الجبال والبوادي نتيجة سياسة مدرسة لكل قرية دون أي التفاتة رمزية، والحال أن بعضها يؤدي واجبه بتفان والبعض الآخر يستغل ذلك لرفع عدد شواهده الجامعية من ماسترات ودكتوراه على حساب أطفال أبرياء ذنبهم الوحيد أنهم خلقوا في البوادي، وكلنا نعرف قدر الالتزام الحضوري لطالب ماستر أو دكتوراه في المغرب وسائر بلاد العباد أجمعين. أضف إلى هذا تلك الفوارق الحادة في المرتبات التي تصل أحيانا إلى الضعف بين أستاذين في نفس المؤسسة ويؤديان نفس العمل، سوى أن أحدهما عرف كيف ينجح في امتحان يقال إنه مهني، ولكم أن تتصوروا كمية الإحباط التي سترافق الراسب أو غير المحظوظ طيلة فترة انتظاره الترقية الموعودة .
وعوض أن تعمل الوزارة على تحقيق عدالة بين أطرها التربوية وتغذية النقص الحاصل نتيجة التقاعد بطريقة متوازنة، تم إغراق هيئة التدريس بعشرات الآلاف من الأطر التربوية الجديدة في سنوات قليلة جدا، دون تمحيص في جودة معارفها ولا تدقيق في طرق تكوينها. فمن أجل إنجاح نظام التعاقد بسرعة ولهفة تمريره، تم التساهل كثيرا في معايير القبول لمراكز التكوين والخروج منها، والمعروف أن دولا عديدة تعتبر امتحانات القبول في مهنة التدريس أهم وأصعب الاختبارات لديها لأن الناجح فيها ستوضع بين يديه أجيال قادمة ومستقبل بلد بأكمله، فلا بد من معارف محترمة في مجاله كما وكيفا، ولا بد من تسليط الضوء على سلامة شخصيته النفسية باختبارات غاية في الصرامة لنتأكد من رغبته في المهنة، والحال أن الإصلاح الجديد الذي فرضه شكيب بنموسى لمهن التربية والتكوين جاء متأخرا ولن يبدأ في ضخ أطره إلا بعد مرور خمس سنوات، وسيجدون أمامهم هيئة منتفخة جدا سرعان ما ستذوبهم في أعطابها .
إن تفعيل حملة تطهير حقيقية لمسح أوساخ المنظومة التعليمية التي تلطخ وجه القطاع من طرف منتسبيه أضحى واجبا وطنيا آنيا لا يقبل التأجيل أو التسويف، يوازي ضرورة ضخ زيادات معقولة في الأجور لكل رجال ونساء التعليم حتى يتحقق لهم الأمن المادي الكامل وتتقلص الفوارق بينهم وفق مبدأ عمل واحد أجر واحد، فكما نرفع شكيمتنا ضد الموظف المرتشي والفاسد في أي قطاع كان، فالأولى أن نحارب بني مهنتنا ممن لا يحترمون معايير الشرف في مهنة التعليم وهي معلومة للعام والخاص، ومهمة وزير التربية الوطنية اليوم، كما جاء في النموذج التنموي الجديد، هي اعادة الهيبة لرجل التعليم قبل كل شيء، وهذه العزة لن تعود إن خذلنا الأستاذ في جيبه أو تكوينه المعرفي والبيداغوجي .