شوف تشوف

الرأيالرئيسية

أزمة فرنسا.. محصلة النيوليبرالية

دخلت الأزمة السياسية بفرنسا مرحلة جديدة، بعد إقرار تعديلات أدخلتها الحكومة على نظام التقاعد، ما بدا تحديا للشرائح الاجتماعية المتضررة من رفع سن التقاعد. ورغم أن المتظاهرين تحولوا إلى العنف والشغب منذ الأيام الأولى للاحتجاجات، إلا أن مضي الحكومة الفرنسية في المشروع المثير للجدل أعطى المحتجين ذريعة لارتكاب مزيد من العنف، وتدمير منشآت وحرق متاجر وإغلاق طرق في نقاط حيوية من العاصمة باريس، فكانت النتيجة اشتباكات بين المحتجين والشرطة.

حتى هنا، يبدو الأمر منطقيا.. غير أن هناك نقاطا جديرة بالتأمل والفهم، ففرنسا دولة أوروبية تنعُم بقدر عال من الديمقراطية، ومساحة حرية التعبير لدى الفرنسيين رحبة بما يكفي لتوصيل صوت المجتمع بسهولة. ومن ثم، فإن لجوء الرافضين لتعديل نظام التقاعد إلى الاحتجاج بالشارع، ثم استخدام العنف لتوصيل الرسالة، مؤشر شديد السلبية لجهة فعالية قنوات التواصل بين المجتمع والدولة. ما يعني أن الحكومة الفرنسية حتى وإن كانت تسعى إلى الصالح العام حسبما تراه، إلا أنها غير قادرة على إقناع المجتمع بجدوى تلك القرارات أو صحتها.

ويصبح مبررا التساؤل عن هذه الفجوة، بالنظر إلى تكرار ذلك التسلسل من القرارات المثيرة، أو التي يمكن وصفها بالمستفزة للفرنسيين. ففي أواخر عام 2018 واجهت فرنسا أزمة أشد قسوة وأكثر عنفا، عرفت وقتئذ باسم أزمة «السترات الصفراء»، حين قررت الدولة رفع أسعار الوقود فأضرب السائقون، وباشروا احتجاجات بدأت سلمية، وتحولت إلى العنف، مع سلبية التعاطي الرسمي معها. ولم تنحسر الاحتجاجات إلا بعد تراجع الحكومة عن قرارها وإلغاء الزيادة. بل استغرق الأمر بضعة أسابيع، قبل أن تنتهي الأزمة بشكل كامل في الربع الأول من عام 2019. في مؤشر قوي إلى تراجع مساحة الثقة بين المؤسسات الرسمية والمجتمع.

وها هي الأزمة تتكرر بعد أربعة أعوام، وهي فترة قصيرة بالنسبة إلى طبيعة الأزمتين وحجمهما. وهو ما يثير التساؤل عن قدرة الحكومة الفرنسية على استخلاص دروس أزمة «السترات الصفراء»، وعجزها عن احتواء ردود الفعل الشعبية على قرارات وسياسات لا يتفهمها المتضررون منها، فالواضح أن تصرف السلطات الفرنسية بعيد تماما عن أي دروس أو استفادة من الأزمة السابقة، حيث نجحت في تمرير التعديلات على قانون التقاعد، وأفلتت من تصويت البرلمان على حجب الثقة عنها.

لكن ما جرى لا يعد نجاحا لنظام حكم ماكرون سوى بالحسابات المالية المباشرة والضيقة، فقد توفر الحكومة جزءا من مخصصات التقاعد وكذلك رواتب البدلاء الجدد للمتقاعدين، لكنها، بمنظور الاستقرار السياسي والمجتمعي ومستقبل العلاقة بين المجتمع والمؤسسات الرسمية، خسرت كثيرا وصارت تعاني أزمة ثقة حقيقية وربما دائمة. وتكرار الأزمة بنمط متشابه مرتين في عهد ماكرون، يعني وجود خلل ما في دوائر صنع السياسات والقرارات.

وسواء نجح ماكرون في تثبيت تعديلات قانون التقاعد أو اضطر إلى التراجع عنها أو تأجيلها، فالمؤكد أن ثقة الفرنسيين فيه قد تراجعت، وهو ما أشارت إليه بالفعل استطلاعات الرأي عن شعبيته وسط الأزمة الحالية. ولما كانت كلتا الأزمتين، السابقة والحالية، تتعلقان بالعمال وكبار السن والشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة، فالمعنى الكامن في ما يجري أن توجهات ماكرون النيوليبرالية تتسم بالحدة، بل بالتوحش والاندفاع نحو إعادة هيكلة المجتمع ليس فقط على حساب الأكثر فقرا، لكن أيضا باضطهاد من ليسوا أغنياء واستهدافهم.

سامح راشد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى