شوف تشوف

الرأي

أزمة خطبة الجمعة (1ـ2)

بقلم: خالص جلبي

 

 

 

أكتب من كندا وأنا أحاول أن أصلي كل جمعة في مسجد جديد، فلم يتغير نظام الخطاب بين الأول والثاني، لذا قررت أن أصلي كل جمعة في مسجد جديد عسى أن اجتمع بالجديد، حاولت في (دورفال) ثم مسجد (الجسر) في منطقة لافال، ثم في مسجد (مكة المكرمة)، الأخير كان مختصرا قرأ الخطبة من ورقة وكان أفضلهم أن لم يطل على المستمعين الكلام الممل المعاد المعروف، منذ أيام الظاهر بيبرس وكافور الإخشيدي. قلت فلأنوع  على أمل أن أشم رائحة الجديد فلم أسمع الجديد، بحيث إن الخطيب لو أخذته إلى صعيد مصر أو مسجد قاسيون في دمشق، أو رجع في الزمن إلى أيام المماليك البرجية لم يتغير شيء فيه، وهو مؤشر خطير على توقفنا في مربع الزمن خارج خط الحضارة وتطورها، بحيث بدأنا نفكر هل يمكن القيام بتطوير خطبة الجمعة خارج هذه المنظومة.

ما زلت أذكر حين حضرت خطبة وصلاة الجمعة في بلد خليجي، فكان نظم الخطاب كارثيا بكل معنى الكلمة. فلم يزد الحديث عن مواعظ بالية وأدعية عدوانية أن يدمر (الكافرين) جميعا وعائلاتهم. في الوقت الذي منح (الكافرون) الكنديون المسلمين الجنسية الكندية، وسهلوا لهم دخول البلد والرزق الوفير والدراسة الجامعية شبه المجانية والأمان من جَلْد المخابرات وتقارير الشرطة السرية. وفي مسجد (فاطمة) في كندا ـ مونتريال، كان المتكلم يتحدث عن إعداد رباط الخيل للجهاد في بلد مسموح فيه أن تعتنق أي دين وتنشر أي مبدأ بدون خيل ورباط.

أما في الشرق فالمنظر مختلف، فكل يوم جمعة يجتمع المؤمنون للصلاة وسماع الخطبة. ويستنفر نصف جيش من المخابرات  لتسجيل الكلام ورفع التقارير، فلعل فيروس خطير مر من أقنية الكلام.

وكل يوم جمعة ترتج إسرائيل وحكومات العالم الإسلامي خوفا من اندلاع المظاهرات بعد كل صلاة. (وهو الذي حدث مع الربيع العربي) وهكذا تحول اجتماع يوم الجمعة إلى زلزال اجتماعي متكرر، تحبس إسرائيل والأنظمة الشمولية أنفاسها مع كل دورة له حتى ينجلي الخطر، بعد أن تحول إلى خندق أخير للمعارضة والتعبير.

ولكن مشكلة زلزال يوم الجمعة ما زال قائما في العالم الإسلامي لجماهير معفرة تنتظر المهدي، ويلتئم جمعها عسى أن تمطر السماء مطرا وليس في الأفق سوى الغبار. ومن الغريب أنه في كل من كندا والشرق وفي كل مرة، يكتشف الجمهور أن صوته مصادر في هذا الاجتماع لحساب وعاظ السلاطين. فمنذ أيام يزيد بن معاوية يصعد كل يوم جمعة الخطيب نفسه ويكرر الديباجة ذاتها. ويعيد الدعاء نفسه للسلطان بالحفظ والصون، بأن يمد في عمره كي يبقى راكبا على ظهر العباد إلى الأبد. ويتلقى الموجة جمهور أخرس، أتقن الصمت بختم على الفم أكبر من ختم الحبل السري على البطن. ليسمع حديث واعظ في قضايا لا تستحق الاجتماع. فلا يزيد الحديث فيها عن فواكه الجنة، في الوقت الذي لا يجد المواطن رزق عياله، وعن الآخرة في الوقت الذي يحتضر فيه المواطن كل يوم مرتين. وعن فرعون ذي الأوتاد في الوقت الذي طغى الحاكم في البلاد فأكثر فيها الفساد.

ومن خلال تأميم صلاة الجمعة لحساب الحاكم بأوراق مطبوعة سلفا من الأجهزة الأمنية، بكلمات منتقاة بحذر ودقة يتلوها موظف رسمي، من خلال بوق ضيق صنعه رجال الأمن بالتفصيل على المقاس تمت مصادرة الآراء لحساب رأي واحد فرد صمد. والحر.

وفي حي (الميدان) بدمشق حضرت خطبة الجمعة، وكان بجانبي غلام لم يبتل بمرض النوم أثناء الخطبة، فانتبه إلى غلطة في سرد الخطيب فصلحها له. ويبدو أن الغلام كان قد حفظ (الكليشيه) من كثرة الترداد.

وفي (القامشلي) بلدتي التي عشت فيها طفولتي، كان الإمام يخطب من كتاب (ابن أبي نباتة) من أيام السلطان قلاوون. وهناك 52 خطبة على مدار السنة وحسب المواسم: الصيام ـ الحج ـ الإسراء والمعراج ـ المولدـ الهجرة ـ … الخ.. وكنا صياما فتحدث عن الحج وبدأ يدعو أن ينزل الغيث ولا يجعلنا من القانطين وكنا في الصيف. ثم انتبه إلى أنه بدل المواسم والأدعية، فبدأ يقلب على عجل عن الخطبة المناسبة بعد أن ضل طريقه إليها، ولم ينتبه الجمهور إلى ما حدث، لأنه لا يسمع شيئا. فهو يسمعها منذ نصف قرن وهو نائم منذ قرون. وكانت نكتة ولكن لم يضحك أحد.

وكنت أخطب أنا شخصيا أحيانا وأنتظر اعتقالي من المخابرات بعد كل خطبة. وأكثر ما كان يزعجني أنه بقدر انفعالي في الخطبة، بقدر استغراق البعض في النوم. ولما خرجت من إحدى الخطب، سألت أحدهم بعد أن أثنى على الخطبة التي ألقيتها. قلت له عما كنت أتحدث؟ قال وهل يحتاج هذا للسؤال كنت طبعاً تتحدث عن الإسلام؟

وفي (المغرب) حضرت خطبة في مسجد، فحول الخطيب الخطبة إلى مناسبة فقهية في الاستنجاء والاستبراء، مع أن الناس لم تعد تستخدم الحجارة في دورات المياه، منذ أيام الاستعمار الفرنسي.

وفي (أولدنبرغ) بألمانيا، مدينة الفيلسوف (ياسبرز)، حضرت خطبة الجمعة وكان الخطيب التركي يقرأ من بعض كتب الصوفية عن بعض الرؤى، مما خيل إلي أنه أقرب لحديث السحرة وقراءة الكف والتنجيم. والساحر يدمدم بنفس حروفنا، ولكنها لغة يفهمها الساحر فقط.

وفي إحدى مدن الخليج كان الخطيب يدعو بحرقة على طوائف لا نهاية لها بالتدمير الكامل وتيتيم الأطفال وترميل النساء، وأن يريه عجائب خلق الله فيهم. وكان أكثر حماسه عند الدعاء على العلمانيين أن يقتلوا عددا ويهلكوا بددا فلا يبق منهم أحدا. كرَّر ذلك ثلاث مرات وصوته مختنق بالبكاء. والجمهور يؤمن على المذبحة الجماعية. وأنا مرتاع بين التأمين والاستنكار.

وعن (بلد عربي) روى لي ثقة، أن خطب الجمعة تكتب من وزير مبجل مهمته توعية الناس، ثم ترسل بالفاكس إلى خطباء كل المساجد كي يقرؤوا خطبة واحدة موحدة مؤممة مصادرة. وهي قصة ليست خاصة بذلك البلد، بل هو وباء عربي مثل انتشار مرض التهاب السحايا والدماغ.

وفي (القاهرة) وأمام أحد المساجد كانت الكاسيتات تباع بالعشرات لواعظ يعلو صوته هدير محرك نفاث. يعتمد فرقعة الحنجرة أكثر من الدماغ، والهياج العاطفي أكثر من حديث العقل. وهم جيل جديد من الواعظين المحدثين يصغي لهم الجمهور بخشوع تقشعر منه الجلود. ومما لفت نظري روايته عن فاطمة الزهراء (رضي الله عنها) أنه لم تأتها الطمث قط، فاعتبرها معجزة. وكان الجمهور المخدر يصيح الله أكبر. ونحن نعرف في الطب أن الدورة الشهرية عند المرأة طبيعية وصحية، ولا تنقص أو ترفع قدرا، ولا يؤدي زيادة أيامها وغزارة دمها أو انقطاعها إلى معجزة، بل لها قانونها الذي يسري على جميع بنات حواء. وهو ما كان رسول الرحمة يعلمه للمؤمنات كل يوم. ولكن الدجل يمكن أن ينتشر باسم الدين، ويحارب الإسلام بإسلام مزيف. كما في تبديل الدواء إلى سم، بقلب جذر الهيدروكسيل في المركب الكيمياوي بدون تغيير في وزنه الذري.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى