أحمد مصطفى
يصعب على أي اقتصادي أو محلل أو استشاري حاليا أن يتوقع مستقبل الاقتصاد العالمي، في ظل ما يشهده العالم من تطورات. فالحرب في أوكرانيا ليست مجرد عمل عسكري روسي ضد أوكرانيا، بل هي أزمة أوسع كثيرا لا يقتصر تأثيرها على الاتحاد الروسي وأوروبا، بل يطول العالم كله.
يقول المثل «كذب المنجمون ولو صدقوا»، لكن المحللين والاستشاريين في المؤسسات الاقتصادية والمالية الكبرى حول العالم، ليسوا «منجمين» تماما. فهم لديهم نماذج توقع وبرامج كمبيوترية «ذكية»، يدخلون فيها البيانات والاحتمالات ويخرجون بتوقعات. أي أن الأمر أقرب لعملية حسابية، مع الأخذ في الاعتبار المتغيرات المتوقعة. مع ذلك، هناك أزمة حقيقية يشهدها هذا المجال، منذ ما قبل وباء كورونا، وأصبحت الآن أكثر حدة. ينسحب ذلك على الكل تقريبا، من المؤسسات الكبرى، كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرهما، إلى وحدات البحوث والتحليلات في البنوك الاستثمارية والمؤسسات المالية، وما بينها مؤسسات إقليمية وقطرية وبنوك مركزية.
هذا الشهر، اعتذر رئيس منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي التي تقدم المشورة الاقتصادية لعشرات الدول الصناعية الكبرى عن إصدار تقرير مستقبل الاقتصاد الدوري كالمعتاد. وقال إن منظمته ليست في وضع يسمح لها بالتوقع، في ظل الظروف الحالية – يقصد الحرب في أوكرانيا. أما صندوق النقد الدولي، الذي يصدر تقريرين في العام عن توقعات أداء الاقتصاد العالمي، فقد عدل تقريره الأخير الذي صدر في أكتوبر العام الماضي، وتوقع نموا للناتج المحلي الإجمالي العالمي في حدود 5 في المائة، ليخفض ذلك التقدير بداية هذا العام إلى ما بين 3 و3.5 في المائة. وسيصدر الصندوق تقريره نصف السنوي، الشهر القادم، متضمنا مزيدا من التخفيض لتوقعات نمو الاقتصاد العالمي، ربما لأقل من 3 في المائة.
بالطبع، لا يمكن أن تكون التوقعات، أي توقعات، دقيقة تماما، ذلك أنها تقدر نتائج استنادا إلى بيانات محددة ممزوجة بمتغيرات محتملة. وتلك التغيرات المحتملة قد تأتي بشكل مغاير تماما، وأشد أو أقل مما يتم إدخاله من بيانات ومعلومات في برامج النماذج الإلكترونية التي تعطينا السيناريوهات المتوقعة. لكن في السابق كان حجم المعلومات شبه الأكيدة أكثر من التغيرات المحتملة. أما الآن فالتغيرات المحتملة تكاد تكون القاعدة، ما يسبب أزمة حقيقية لكل من يعملون في مجال التوقعات الاقتصادية.
في العام الماضي، كان موقف البنوك المركزية في أغلب الدول الكبرى أن موجة التضخم في الاقتصاد وارتفاع الأسعار «مؤقتة» و«انتقالية»، ونتيجة المقارنة مع فترة الركود في عز أزمة وباء كورونا، والانتعاش الاقتصادي مع الخروج من الأزمة. وبالتالي وضعت تلك البنوك السياسة النقدية للدول على أساس أن النمو الاقتصادي يقلل من أثر التضخم، وأن الأسعار ستعود إلى الاستقرار. لكن ما حدث أن التضخم استمر وتصاعد، وبالتالي عاد الكل إلى تشديد السياسة النقدية هذا العام، بعدما اعترفوا بأنهم أخطؤوا التقدير.
ثم جاءت حرب أوكرانيا لتدفع التضخم إلى مزيد من الارتفاع، مع زيادة أسعار الطاقة والغذاء حول العالم، وبدأت مؤشرات على الركود الاقتصادي المحتمل تظهر في دول كبرى، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا. ناهيك طبعا عن دول أوروبا، وحتى الصين التي كانت تمثل قاطرة النمو الاقتصادي العالمي. ليس ذلك فحسب، بل عاد انتشار وباء كورونا بقوة في الصين، وعادت إغلاقات الاقتصاد بما يمكن أن يقضي على فرص استمرار النمو، في ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
رغم التأثير الواضح لحرب أوكرانيا، وقبلها أزمة وباء كورونا، إلا أن هناك خللا أساسيا في عملية التوقعات والتقديرات الاقتصادية في السنوات الأخيرة. يعود ذلك إلى ما قبل الأزمة المالية العالمية في 2008 – 2009، وهو أن النماذج نفسها لم تعد تصلح مع التغيرات الجذرية التي يشهدها الاقتصاد العالمي.. الأمر يشبه إلى حد كبير «طفرة المتحورات»، بمعنى أن النظام الاقتصادي والمالي العالمي الآن لم يعد كما كان في بداية هذا القرن مثلا. ولا يمكن بالتالي التعامل مع الطفرة الجديدة
بالأسلوب القديم ذاته.
أيضا، لم يعد ممكنا التوقع والتقدير بالمعايير ونماذج السيناريوهات نفسها. وليس الأمر من قبيل ترف «معرفة الحظ»، إنما تلك صناعة كاملة تقوم عليها خطط وسياسات اقتصادية ومالية للدول والأقاليم والعالم كله. هناك مفارقة غريبة فعلا، هي أن الأسواق المالية (الأسهم والسندات والمشتقات المالية، بما فيها العملات المشفرة) تبدو متجاهلة تماما لحرب أوكرانيا، كما فعلت في ظل أزمة وباء كورونا. فبغض النظر عن تقلبات الصعود والهبوط، يبدو المنحنى العام في المتوسط لمؤشرات الأسواق الرئيسية باتجاه الصعود دوما. هل تتجاهل الأسواق نصائح صناعة التوقعات؟ هل تعتمد فقط على «حدس» المستثمرين، أم ماذا؟
أتصور أن السبب الأرجح هو تلك الوفرة الهائلة من الفائض المالي الرهيب في النظام العالمي، وهو فائض «غير حقيقي»، أي مجرد أرقام على الورق غير مدعومة بأصول حقيقية. ووصل حجم فقاعة الغليان المالي تلك إلى تريليونات الدولارات، تشجع على مغامرات تزيد من الغليان وانتفاخ الفقاعة. وما لم تتبخر تلك التريليونات الوهمية من النظام، لن يتمكن المحللون والاقتصاديون والاستشاريون من القيام بعملهم في التوقع والتقدير السليم.
نافذة:
رغم التأثير الواضح لحرب أوكرانيا وقبلها أزمة وباء كورونا إلا أن هناك خللا أساسيا في عملية التوقعات والتقديرات الاقتصادية في السنوات الأخيرة