أزمة القراءة
مريم كرودي
بعيداً عن مغريات الحياة وخطوطها الحمراء الفاتنة، بعيداً عن المغص الإعلامي الغارقين فيه حد الاختناق، بعيداً عن المواضيع المثيرة للجدل التي باتت تحجب عنا نور الحق.. نحن نعيش أزمة جدية، أزمة ضياع كارثية وجهل معصرن، أزمة فقر لا مادي وهجر سرمدي ظهرت معالمه منذ زمن ليس ببعيد.. أزمة تكونت فينا، ترعرعت وأدلت غصونها على أخلاقنا ثم نتجت عنها ثمرات مرة تحاكي حنظل ليالي العاصفة.. ثمرات غذتنا واستنزفت ما بنا من طاقة؛ لتتركنا عاجزين عن تحريك أطرافنا فوق جسر متذبذب يطل على حفر الهاوية.
أزمة نتخطاها لنمرح بعيداً عن مدارها ونسرح في أجهزة صغيرة خطفت منا دقائق؛ تعدت الدقائق وصارت أعواماً، امتلكتنا وأجبرتنا على تعليق إهمالنا وتقصيرنا على شماعات السرعة عصراً ومعلومة، فغدونا نبرر هجرنا للكتاب بأننا في زمن السرعة نحيا، ولا وقت لدينا لتقليب صفحاته وتدبر معانيه، هذا الوقت الذي نفقد السيطرة عليه حينما يصير إهداره في مواقع الخراب الاجتماعي سيد الموقف، وكأن الكتاب ينتقم منا لتفريطنا في مجالسته، فيجرعنا مرارة الهجر ويصورها لنا على هيئة انشغال وتوتر دائمين.
عن أزمة القراءة أتحدث، عن الأزمة العصيبة التي مست العلم والثقافة وألحقت بركبها القيم والأخلاق ثم الهوية، عن الأزمة التي تفشت هنا وأركنتنا حيث نحن كنا، أجلستنا في الزاوية ودفعتنا لمشاهدة العالم من حولنا بدهشة.. عن الأزمة التي أبت إلا أن تجعلنا ننساق خلف الموجات العاتية دون أدنى مغازلة للبصيرة، أن ندفن أعمارنا تحت أنقاض الجهل والتفاهة، أن نطيل بالكلام عند السفاهة وأن نطأطئ رؤوسنا عند الحكم.
كم يحز في نفسي كعربية أن أجدني ضمن المراتب المتأخرة في لوائح التصنيفات السنوية للبلدان حسب معدل القراءة والكتابة، أن يتنافس شباب مجتمعي في المظاهر الكاذبة، أن يهرولوا إلى كل شيء بلهفة، عدا الكتاب، أن لا يغرسوا عيونهم إلا في الآلات وتتوقف قلوبهم عن النبض إن هي انطفأت.
أخجل بشدة لمنظر المكتبات التي توضع في مداخل البيوت، تحمل من الكتب ما لذ وطاب وما تشتهي الأنفس، ولا تشكل إلا ركن زينة توارثه الأجيال ووجب وجوده في كل بيت، فأقل الكتب صفحات ازداد وزنها بغبار السنين المتراكم هناك على الرف.
كم يؤسفني أن يحطم أبناء جيلي الأرقام القياسية في مشاهدة الحماقات، وتختفي بل تكاد تنعدم نسب المشاهدة إن الأمر تعلق بالعلم والقراءة، أن يتباروا في حفظ أسماء مخربي المجتمع وإنجازاتهم، وأن يجهلوا أسماء الكُتاب، والشعراء والمفكرين، أن نعيش أزمة لا علاج لها إلا الكتاب، أزمة لو أحسسنا بخطورتها لسارعنا لمصالحته، ففي صلته تفتح لعقولنا وتنوير لنظرتنا، خروج من قوقعة دامسة وسفر عبر الحروف إلى بقعة يسطع فيها نور الفكر وتسمو عندها الذات.
لو بلغنا حجم المعضلة التي نعيشها لما جلسنا على حافة التفاهات، نلملم جراح ثقافتنا، نلفها، نخبئ بعضها في تابوت غابر ونلقي ببعضها الآخر على جنبات الحياة.
أمة «اقرأ» سمينا، وحروف «اقرأ» أول ما أنزل فينا، قرأناها وما قرأنا معناها، تهاونّا حد النخاع وأنجبنا أزمة ترفض الكلمات تسميتها.