شوف تشوف

الرأي

«أرض» للبيع..

يونس جنوحي
أحيانا لا يُقدر المنتخبون والمسؤولون الإداريون، قيمة الأرض التي يزاولون مهامهم الإدارية فوقها. ويتسبب بعضهم في كوارث ضد تاريخ البلد، دون أن يرف لهم جفن.
اختفت عمارات وفيلات لها تاريخ في شوارع رئيسية. حدث هذا في مدينة الدار البيضاء في عز الحجر الصحي، رغم أن الفيلا لم تكن متهالكة ولا آيلة للسقوط. وبعد أن فشلت محاولات كثيرة لخنقها من طرف أباطرة العقار، استغل هؤلاء الناس فترة الحجر الصحي والطوارئ الصحية التي بدأت في مارس الماضي، ودكوا الفيلا التي كانت معلمة من معالم تقاطعات شارع آنفا، مع الأزقة التي تحمل أسماء تاريخ الدار البيضاء وهوية المدينة.
يتكرر الأمر في طنجة أيضا، حيث توجد عقارات مغلقة يعود تصميمها إلى الفترة التي كانت خلالها المدينة منطقة دولية، وتشهد على حقبة مهمة جدا من التاريخ، تتجاوز مائة عام، بل ويكون أحيانا ملاكها من الكتاب العالميين ومشاهير الفن والسينما، أي إن قيمتها تتجاوز المال بكثير. لكن للأسف، تبقى مهملة ويكون سلاح أباطرة العقار هو استصدار مذكرة الهدم، على اعتبار أن البناية آيلة للسقوط ويمكن أن تؤذي المارة والسكان ثم تسوى بالأرض، رغم أن ترميمها ممكن وليس بالمهمة المستحيلة.
في مدينة القنيطرة، كانت بعض مناطق قلب المدينة على الطراز الأمريكي، وهناك تاريخ كامل تحمله تلك البنايات. أغلبها اليوم تم هدمها منذ تسعينيات القرن الماضي، وشيدت مكانها عمارات سكنية بنوافذ ضيقة وبلكونات يضع فيها أصحابها سخانات الماء والأحذية التي أحيلت على التقاعد ورؤوس البصل والثوم، التي تقول الأسطورة إنها تطرد الغربان والبوم. رغم أن الشؤم الحقيقي هو تلك العمارات نفسها، التي تقتل جمالية المدينة، وتجعل تاريخ هذا البلد وكأنه أصم بدون زخرفة ولا هوية.
ألم يكن مسرح سيرفانتيس على وشك أن يُجهز عليه أباطرة العقار في مدينة طنجة، لولا احتجاجات ما تبقى من غيورين على الفن والتاريخ. لقد كاد وحوش العقار أن يربحوا المعركة، ويحولوا أقدم مسرح في إفريقيا إلى مركز تجاري آخر، أو عمارة سكنية بحراس وبوابة وشقق لا حصر لها وفضاء للعب. وجدير بالذكر أيضا، وهذا ما لم ينتبه إليه الذين لا يتابعون إلا أخبار الطوابير الخلفية والآفات، أن إسبانيا قامت خلال فبراير الماضي، أسابيع فقط قبل أزمة كورونا في المغرب، بتفويت المسرح بشكل رسمي ومدى الحياة إلى المغرب. بعد أن كانت هناك إشكالية تتعلق بملكية العقار الذي بني فوقه المسرح، الذي يعد أحد أقدم وأفخم المسارح في العالم وليس في إفريقيا فقط. وتقرر بموجب قرار الحكومة الإسبانية تفويت المسرح إلى السلطات المغربية، على أن يتم ترميمه والحفاظ عليه كتراث فني يشهد على حقبة تأسيس طنجة، وجعلها مدينة تحتضن مختلف الثقافات الأوربية التي عاشت بين المغاربة.
أما أسوار المدن التاريخية مثل فاس، مكناس، مراكش وتارودانت، فمجرد ذكرها يدمي النفس فعلا. إحدى العجائب الفنية العالمية التي تثير فضول الباحثين عبر العالم ويشدون الرحال لكي يروها، تتحول في أعين الجهال إلى مجرد جدران طينية طويلة يشيدون منازلهم على بعد ميلمترات من تلك الجدران، بل ويرمون مخلفات البناء والنفايات فوق السور الذي يعود إلى فترات تأسيس الدولة المغربية، ويبلغ عمره قرونا من الزمن كان خلالها السور شاهدا على الثورات وسقوط دول وقيام أخرى، ووصول ملوك وفتحهم لتلك المدن وإنهاء سيطرة القبائل عليها، وجعلها عواصم للدول التي صنعت تاريخ المغرب وجعلته عصيا على الاختراق العثماني، أيام الدولة السعدية، قبل أزيد من ستة قرون خلت. وفي الأخير يأتي جاحد يكتب على السور بفرشاة بالية ولون أحمر فاضح: «أرض للبيع»، بأخطاء إملائية قاتلة، ويضع رقمه الهاتفي أسفل الإعلان، دون أن يمنعه أحد من انتهاك حرمة جدار أقدم من عمر أجداده جميعا. إن عبارة «أرض للبيع» وحدها، تجعل مسألة إعادتنا جميعا إلى مقاعد الدراسة أمرا ضروريا. ليس لتعليمنا حروف الهجاء من جديد، بل لتلقيننا رمزية الثروة التي نمشي فوقها وتختزل تاريخنا الجماعي كاملا. لعل جيلا آخر يولد بعدنا، يعرف كيف يميز بين «البقعة الأرضية» وبين «الأرض»، التي ترمز في كل حضارات العالم ولغاته إلى الوطن والانتماء.
لا عجب إذن أن يكون الذي يبيع «الأرض» غير مدرك لقيمة فيلا فنية، أو عمارة أسست في بداية تعمير مدينة مثل الدار البيضاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى