بقلم: خالص جلبي
جاءني فيديو من أخ مغربي يظهر احتشاد عشرات الميكروفونات أمام المغنية باطمة، تتحدث أمامها عن حياتها الشخصية، مقارنة بعالم من أصول مغربية وصل إلى اختراع يمكن فيه شحن بطارية السيارة في ست دقائق، وأمامه ميكروفون أو اثنان، وهو يتحدث ولا جمهور يسمع أو يصغي أو يهتم! بالطبع هذا يذكرنا بالمبدأ القرآني، أنه لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث، أو آيات كثيرة تتحدث عن الناس بأنهم لا يعلمون ويجهلون ويشركون ويتبعون الظن وإن هم إلا يخرصون. وهذا يفهمنا أيضا لماذا يفر أولادنا إلى بيئات أخرى تحتضن العبقريات. وأنا شخصيا بدأت رحلة التخصص الطبي في بلدي سوريا، حيث ضيعنا سنوات من عمرنا، حتى اتخذت قرار الفرار إلى ألمانيا، وكان من أفضل القرارات التي اتخذتها في حياتي، فلم يكن في بلدي إلا الجوع والفقر والاعتقالات والضرب وتكسير الأسنان والفلق، وقل أعوذ برب الفلق، وفوقها الجهل ألا ساء ما يعملون. وحاليا سوريا تذكر بما جاء في القرآن عن اليمن غير السعيد، فمزقناهم كل ممزق وجعلناهم أحاديث!
وروى لي زميلي الدكتور الأتاسي، الذي زار مركز هيوستن في تكساس لجراحة القلب والأوعية، الذي كان يقوده ميشيل دبغي، الذي توفي في 11 يوليوز 2008م بعدما عاش 99 سنة. فقال: في أواخر التسعينيات، كنت أتردد على مشفى جامعة «بايلورBaylor » في هيوستن- تكساس، حيث يعمل زوج أختي جراح الأوعية الدموية، وكنت أدخل معه إلى غرف العمليات للمشاهدة والتعلم.
كان هناك طبيب عجوز نحيل الجسم جاوز التسعين من عمره، يرفض أن يعترف بأنه قد هرم، فيلبس قفازاته الجراحية، التي صممت خصيصا على قالب يده، ويبدأ بانتزاع «اللويحة الوعائية atheroma» من مفترق الشريان السباتي، بعدما يكون الأطباء الأصغر سنا قد فتحوا رقبة المريض ووصلوا إلى مكان الشريان السباتي، (وهذا الشريان يغذي منطقة نصف الدماغ فإذا انسد أو نزف أو مرض، أدى إلى فالج شقي، أو خرش إن كان في الأيسر عند معظم الناس).
لم يكن هذا الرجل إلا «مايكل دبغي = ميشيل الدباغ»، الأمريكي الجنسية اللبناني الأصل، والذي بدأ حياته الطبية عندما كان فليمنغ يكتشف البنسلين!
بحث دبغي عن خليفة له داخل أمريكا سنين طويلة، فلم يجد الشخص المناسب، وفي عام 1976 بينما كان يزور بغداد، تعرف على طبيب شاب يدعى «حازم صافي» لمس فيه النجابة (أو ربما التصق به كالظل وأقنعه بأن يتبناه)؛ فدعاه إلى الولايات المتحدة لينخرط في مشفاه، وخلال سنوات أصبح صافي المسؤول عن الأطباء المتدربين في جراحة الأوعية الدموية، خلفا لدبغي.
لم يكن صافي أقل قسوة من دبغي (ربما تعمل له متعة في التعامل مع منهم تحت أيديهم!) مع متدربيه – ومنهم زوج أختي- تبدأ حياة المتدرب بمعسكر مغلق في المشفى لمدة شهرين، لا يخرج منه لأي سبب، ويسمح بالزيارات العائلية مرة في الأسبوع.
يبدأ العمل اليومي مع الخامسة صباحا، وكثيرا ما يستمر حتى الثانية عشرة ليلا!
وما زال الأمريكيون الشعب الأكثر عملا بعدد الساعات، إذ يتجاوز المعدل السنوي 1800 ساعة، متفوقين حتى على اليابانيين المشهورين بجديتهم وتحملهم لساعات العمل الطويلة.
عاش دبغي على هذا المنوال من العمل الشاق طوال حياته، مما يجعلني أشك في أن التعب والنصب وقلة النوم ينقص من العمر، وإلا لما عاش دبغي قرنا من الزمان.
وفي عمر الخامسة والتسعين أصيب دبغي بـ«انفصال أبهري aortic dissection»، واحتاج إلى تدخل جراحي لإنقاذه، والطريف أن دبغي كان رائد هذا النوع من العمليات، والتي كانت تسمى باسمه، والأطرف من ذلك أنه رفض التداخل الجراحي.
ولما ساءت حاله وفقد الوعي، قرر الفريق الجراحي في المشفى إجراء العملية، بعد أن حصلوا على موافقة من اللجنة الأخلاقية للمشفى، وأدخل إلى غرفة العمليات، وكان أكبر مريض تجرى له هذه العملية. ونجحت العملية وعاش بعدها عدة سنوات.
ومن الطريف أيضا أنه عمل لزوجته عملية، فماتت تحت مبضعه، ولم تنج المسكينة، مع أن العرف الطبي لا يشجع قط أن يجري الجراح عملية لأحد أفراد عائلته، لتدخل العاطفة مع الموضوعية (وكان هذا خطأ منه ولا أدري عن نوع الصدمة بعدها، حين يخسر رفيقة حياته بيده، ولكن الجراحين وأنا منهم لهم صرعاتهم الخاصة، وهذا خطأ وحماقة وقلة روية واعتداد فارغ بالنفس. وأنا شخصيا مشيت مع قاعدة أن لا أعالج بناتي أو زوجتي بنفسي قط).
ومن أصعب وأغرب العمليات التي كانت تجرى في هذا المشفى، عملية تدعى «القوس الأبهريaortic arch surgery»، وهي عملية ينقطع فيها الدم عن الدماغ، وتنخفض حرارة المريض إلى 18 درجة مئوية، مما دفع كثيرا من الأطباء إلى التفكر والإيمان بوجود الروح، التي لولاها لمات المريض! مع هذا يجب أن نعترف بأن الإبداع العلمي يحتاج إلى وسط، فلو بقي يعقوب في دلتا النيل، لما أخذ لقب ملك القلوب. وكذلك حال المصري «أحمد زويل»، الذي نال جائزة نوبل لتفتيت الزمن إلى الفيمتو ثانية، فلو ولد زويل في صعيد مصر وبقي هناك، لكان موظفا في البريد، أو خبير جناين، أو حمالا في سوق الخضر.. أو في أحسن أحواله أستاذا في الجامعة، يتثاءب في المحاضرة هو وتلامذته من فرط النعاس.. ومن رفع شأنه هو الوسط العلمي في أمريكا.
وهكذا فالعبقرية لها أرض، ومالك بن نبي يعتبر أن الحضارة ومعها العبقريات عندنا قد ودعت الأرض منذ أيام ابن خلدون، فنحن حاليا لم ندخل مرحلة الدولة والعصر والإبداع، فهذه حقيقة موجعة يجب الإقرار بها، بعد نوم آبائنا الطويل، وعلينا دفع فرق الدين الحضاري.. ومنها قصة اللبناني دبغي، فلم يكن ليصل إلى ما وصل إليه، لولا أنه ركب الجامبو الأمريكية.. يقظة للغافلين وآية للمتوسمين..
إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم.
نافذة:
العبقرية لها أرض ومالك بن نبي يعتبر أن الحضارة ومعها العبقريات عندنا قد ودعت الأرض منذ أيام ابن خلدون