أرسلان الجديدي.. رجل قتلته السجالات السياسية ودفن ضد رغبته بالعاصمة
لم يشغل مسؤول حكومي الرأي العام كما شغله محمد أرسلان الجديدي، سواء حين كان نقابيا أو برلمانيا أو أمينا عاما لحزب سياسي، أو وزيرا أو رئيسا للمجلس البلدي بالجديدة، لكن لا أحد يتحدث عن أرسلان المعلم، بل إن عددا من الناس ظلوا يعتقدون أن ابن الجديدة لا علاقة له بالتعليم، وينسجون حوله روايات تحتمل كثيرا من النقاش.
اسمه الحقيقي محمد الجديدي، ولقبه أرسلان، وهو من مواليد سنة 1926 بمدينة الجديدة، داخل أسرة تتحدر من قبيلة توجد في منطقة الغربية ضواحي الزمامرة، على الحدود بين دكالة وعبدة.
بدأ الرجل مساره المهني معلما للغة الفرنسية بإحدى المدارس الابتدائية بضواحي أكادير، لكنه لم يستمر طويلا في التدريس، بعد أن كثرت احتجاجاته على الوزارة، ولمس فيه رؤساؤه نزعة نقابية مستترة سرعان ما تفجرت حين قرر أرسلان مغادرة وزارة التربية والتعليم، واجتياز مباراة لولوج وظيفة بالمكتب الشريف للفوسفاط بخريبكة. وهو في عنفوان الشباب، سيحتضن الشاب أرسلان من طرف الاتحاد المغربي للشغل، النقابة التي كان يتزعمها المحجوب بن الصديق. ومع مرور الأيام اشتد عوده النقابي وراح يتزعم إضرابات صاخبة، أقلقت النظام وقتها، وهو الأمر الذي جعل الدولة تقرب منها هذا الشاب القادم من عمق بادية دكالة، وتدخله دواليبها، ليغرد داخل السرب وليس خارجه.. وهكذا سيعين الراحل الحسن الثاني أرسلان الجديدي مندوبا ساميا للإنعاش الوطني، ثم في ما بعد وزيرا للشبيبة والرياضة في حكومة كان يقودها محمد كريم العمراني، ثم وزيرا للشغل والتكوين المهني.
عاش الرجل معارك نقابية وسياسية، وظل كثير التنقل بين المدن والمداشر، خاصة بعد أن عين أمينا عاما للحزب الوطني الديمقراطي الذي انشق عن حزب التجمع الوطني للأحرار، وهو ما زاد من محنة أرسلان وبدأ الإرهاق يتسلل إلى جسده. ولاحظ المقربون منه أن أرسلان يقضي ساعات في خطب طويلة كلفته جهدا وعناء أثرا على وضعيته الصحية.
تعدد خصوم محمد الجديدي على الواجهة الانتخابية في الجديدة بالخصوص، من خلال معارك ضد عبد الكريم الخطيب، الذي كان يتزعم حزب الحركة الشعبية الدستورية باللون الأصفر، كما خاض معارك ضد الوزير الطاهر المصمودي وعبد الله العروي، الذي كان مرشحا في آزمور، ثم في مواجهة مصطفى لكثيري بالجديدة.
بعد انتهاء الانتخابات الجماعية لسنة 1992، أصيب الجديدي بوعكة صحية، وحين استشار طبيبه أكد له أنها من مضاعفات حملة انتخابية شرسة، فقد انتخب الرجل للتو رئيسا لولاية ثانية للمجلس البلدي بالجديدة، حضر عملية تكوين فريق العمل وعانى الأمرين في خلق مجموعة منسجمة سياسيا. وحين اشتد به المرض نصحه طبيبه بالخلود للراحة بعيدا عن الصخب الانتخابي للجديدة، وأصيب أرسلان بوعكة صحية ألزمته إقامة دائمة بمسكنه في حي اليوسفية بالعاصمة الرباط.
حين علم الملك الحسن الثاني باختفاء أرسلان الجديدي عن الأنظار، أرسل في طلبه، فقيل له إنه ممدد على فراش المرض، فأعطى أوامره من أجل التكفل صحيا بأحد أكبر خدام الدولة، خاصة وأن الكشف الطبي أكد ضرورة انتظامه في حصص تصفية الدم، وهو ما خضع له دون أن يلفت نظر آلاف أتباعه.
يقول عبد الله غيتومي، الباحث الإعلامي الذي رافق الراحل الجديدي، إن البعض استغل فترة غيابه عن المشهد السياسي، من أجل التحرك في كل الاتجاهات، أملا في توزيع التركة السياسية للرجل المريض، ومنهم من كان يدبر المرحلة الانتقالية.
«حين علم بالتدافع الحاصل حول كرسي شاغر، بادر وهو ممدد على فراش المرض، إلى توقيع تفويض بإدارة شؤون المجلس البلدي للجديدة لرفيقه مصطفى لغنيمي، وظل أرسلان رئيسا شبه شرفي لمجلس مدينة أحبها ودافع عنها في قبة البرلمان وفي المجالس الحكومية».
كان الرجل يتابع ما يقع في الجديدة، بالرغم من وصايا طبيبه الخاص وأفراد أسرته، بل إنه أصر على حضور حفل زيارة الرئيس البرتغالي ماريوس سواريس إلى مدينة الجديدة، حيث كان سعيدا وهو يرافقه إلى الحي البرتغالي رفقة العامل الوراق. كما اصطدم كثيرا مع العمال، أبرزهم عرفة أثناء زيارة رسمية لأحد الوزراء، حيث أخذ العامل الكلمة وشرع في الترحيب بضيف الجديدة، قبل أن يستوقفه أرسلان ويقول له أمام الجميع: «أنا ممثل سكان الجديدة وأنا الأولى بالترحيب بالضيف»، سكت العامل وحول التدخل إلى مزحة.
كان محمد أرسلان الجديدي يمني النفس بنهاية في جوف إحدى مقابر الجديدة، لكن القدر ساقه في شهر يونيو سنة 1999، إلى مقبرة «الشهداء» بالرباط في جنازة تليق بقيمة الفقيد، وذلك قبل شهر عن وفاة صديقه الملك الراحل الحسن الثاني، الذي كان يستمتع بـ«قفشات» أرسلان.
وحدها شقيقته وإحدى جمعيات المجتمع المدني من يصر على مسح ذاكرة الجديديين من غبار النسيان، من خلال حفلات تأبين واعتراف.