كان تعيين كاتبٍ عام جديد لوزارة التعليم سيكون إجراء إداريا عاديا بدون أي صدى سياسي وإعلامي وشعبي، مثلما حدث قبل أيام عندما تم تعيين كاتب عام جديد بـ”إعداد التراب الوطني والتعمير”، وكان ليكون إجراء عاديا أيضا مثلما حدث في وزارة التعليم ذاتها قبل أسابيع عندما تم تعيين مفتش عام ومدير مركزي مكلف بالامتحانات بشكل مباشر دون تباري.
لكن لماذا رافقت تعيين يونس السحيمي في منصب الكاتب العام ضجة كبيرة إلى درجة تقديم سؤال في البرلمان؟ وهل صحيح أن هذا التعيين غير قانوني وأن “المحزوبية” هي السبب؟
ينبغي أولا أن نشير إلى أن الوزارة المعنية ماتزال إلى اليوم “ضاربة الطم”، وكل ما قيل من تأويلات قانونية لتبرير تعيين السحيمي في منصبه دون تباري ما يزال مجرد كلام غير رسمي ينسبه أصحابه لـ”مصادر”، بينما الحقيقة هي أن الوزارة مصابة بـ”اللقوة”، علما أنها تتوفر على واحدة من أكبر مديريات التواصل.
ثانيا، ينبغي ترتيب الأحداث بشكل موضوعي لنفهم بدقة ما حدث. ففي 16 يناير الماضي، أعلنت الوزارة عن فتح التباري حول منصب الكاتب العام. وذلك لأول مرة في تاريخ قطاع التعليم. ليقوم حوالي 12 شخصا بتقديم ملفاتهم. وفي 9 فبراير تم وضع لائحة قصيرة ضمت خمسة مرشحين من قطاعات مختلفة، اجتازوا كلهم مقابلة شفوية أمام لجنة ضمت وزيرين سابقين وشخصيات أكاديمية معروفة.
وفي الوقت الذي كان الجميع ينتظر تعيين اسم من الأسماء الخمسة المرشحة، تم يوم 20 أبريل الجاري الإعلان عن تعيين يونس السحيمي كاتبا عاما، علما أن اسمه لم يرد ضمن اللائحة القصيرة سابقة الذكر، لتبدأ ضجة إعلامية ماتزال تفاعلاتها مستمرة إلى اليوم، خصوصا بعد دخولها البرلمان عبر أسئلة وجهتها بعض الفرق لوزير القطاع.
فالتبريرات القانونية التي “سرَّبتها” الوزارة عبر بعض “وكلائها”، تستند إلى فقرة في مرسوم وضعته حكومة بنكيران في أكتوبر 2012، تفيد بأن الوزير يمكنه تعيين شخصية من اقتراحه في حالة عدم اقتناع لجنة المقابلة بأي من المترشحين. وهذه أول مرة تلجأ فيها وزارة ما منذ 2012 لهذه الفقرة. ليس لكون عشرات التعيينات التي تمت منذ ظهور هذا المرسوم إلى اليوم كانت شفافة، ولكن لأن الصلاحيات التي منحها هذا المرسوم للوزراء تسمح لهم بإجراء “سباق صوري”. فالفائز غالبا ما يكون معروفا مسبقا، ولكن يُسمح لبعض “أرانب السباق” بالمشاركة لإضفاء الطابع القانوني على عملية التعيينات.
لذلك فالجدل حول “قانونية” هذا التعيين من “لا قانونيته” هو نقاش هامشي في نظرنا. فالنقاش الحقيقي هو لماذا اختيار قطاع التعليم لإرضاء حزب يبتز الحكومة للبقاء ضمن الأغلبية؟ ثم ألم يكن الأولى إبعاد قطاع التعليم عن الحسابات الحزبية الضيقة؟ وأخيرا هل انتماء الكاتب العام الجديد لوزارة المالية يجعله مناسبا لقطاع التعليم؟
هذه الأسئلة تؤكد أننا في حاجة لتعديل بوصلة النقاش، خصوصا عندما نستحضر معطيات مؤكدة توضح المشهد أكثر.
المعطى الأول هو أن ما بين 16 يناير، وهو تاريخ الإعلان عن فتح التباري حول المنصب، والإعلان عن التعيين في 20 أبريل كانت هناك ضغوطات كثيرة، داخلية يقف وراءها حزب الاستقلال، لكون يونس السحيمي مقربا جدا من نزار البركة، وكان اسمه في لائحة المرشحين للاستوزار التي وضعها حزب الاستقلال إبان مفاوضات تشكيل الحكومة. كما أن اسمه عاد للواجهة مرة أخرى عندما بدأ الحديث عن كتاب الدولة بعد تشكيل الحكومة.
والمعطى الثاني هو أنه لا يمكن فصل هذا التعيين عن مفاوضات الحصول على قرض من البنك الدولي، والتي بدأت منذ السنة الماضية. ذلك لأن حصول الوزارة على 750 مليون دولار كقرض تمَّ مقابل إلزام الوزارة بشروط تَهمُّ صرف هذا القرض. وعلى رأسها تعيين شخصية ذات خلفية اقتصادية في منصب الكاتب العام.
لذلك فكبار مسؤولي الوزارة لم يكن اسم “يونس السحيمي” غريبا عنهم، إذ كان حاضرا في كل اللقاءات التي جمعت وزارتي التعليم والاقتصاد من جهة وممثلي البنك الدولي من جهة أخرى. بل وأن هؤلاء المسؤولين عرفوا منذ شهور أن تعيينه في هذا المنصب مسألة وقت فقط. خاصة إذا علمنا أن قرار تنقيل الكاتب العام السابق يوسف بلقاسمي إلى الشركة العمومية المكلفة بالمنشآت الرياضية قد اتخذ قبل ستة أشهر على الأقل من تاريخ الإعلان الرسمي عن شغور منصبه بوزارة التربية الوطنية.
لذلك قلنا سابقا إننا أمام قضية أكبر من مجرد نقاش قانوني.
فنحن أمام مشكلة تتعلق بتمويل قطاع التعليم، وهي مشكلة كما قلنا في مناسبات عديدة، بدأت سنة 2015 عندما طرح المجلس الأعلى للتعليم إمكانية فرض رسوم للتدريس في التعليم الثانوي والعالي. وعندما ظهر الرفض الشعبي لهذا المقترح، لم تجد الحكومات المتعاقبة مصادر للتمويل غير الاقتراض من البنك الدولي. وبديهي أن يفرض البنك شروطه لضمان استرجاع أمواله، ومنها فرض المسؤولين، حتى ولو كان تعيين هؤلاء لا أخلاقيا ولا قانونيا.
فولوج أطر وزارة المالية لقطاع التربية الوطنية ليس الأول من نوعه، بل سبق للقطاع أن شهد هيمنة شبه مطلقة لأطر المالية على أكبر المديريات. حيث وصل عددهم سنة 2009 إلى خمسة مسؤولين من ضمن عشرة تتضمنهم الهيكلة الرسمية للوزارة، استقدمتهم الوزيرة السابقة لطيفة العبيدة. ووُكلت لهؤلاء مهام تدبير مديريات وازنة، أهمها الموارد البشرية والمنازعات والشؤون القانونية والميزانية والممتلكات ثم أخيرا الإحصاء والتخطيط. وهي مديريات محورية في وزارة التربية الوطنية. غير أن كل الافتحاصات التي خضعت لها هذه المرحلة، تشير بوضوح إلى اختلالات مالية وتدبيرية كانت موضوع تقارير خطيرة، خصوصا تلك التي أنجزتها مؤسسات دستورية.
فالاختلالات التدبيرية والمالية التي عرفها البرنامج الاستعجالي أثبتت بأن الاستعانة بأطر الاقتصاد لا يضمن بالضرورة الحكامة الجيدة. لذلك فالدرس الذي نرفض حتى الآن الاستفادة منه هو أن الكارثة التي حدثت في البرنامج الاستعجالي، والذي تجاوزت ميزانيته 5 مليارات دولار، لم تكن بسبب أن مُدبريها كانوا بعيدين عن مجال تدبير الميزانيات، بل أساسا غياب ربط المسؤولية بالمحاسبة. لذلك رأينا هؤلاء المسؤولين يصولون ويجولون في وزارة التعليم طيلة سنوات، وعندما بدأ الحديث عن فشل البرنامج الاستعجالي وتبخرت ميزانيته القياسية، غادر هؤلاء دون محاسبة. بل إن منهم من ما يزال إلى اليوم يحتل فيلات فاخرة تابعة لوزارة التعليم، في حي الرياض واليوسفية وحسان.
وعندما نتتبع مسار هؤلاء اليوم، سنجد أن منهم من أضحى مقاولا مليونيرا يتاجر في الخشب، وآخر أضحى مقاولا مليونيرا يتاجر في الأجهزة الرقمية، ومنهم أيضا من أنشأ مكاتب دراسات، ليتبين بعد مغادرتهم لمديرياتهم أنهم كانوا يمنحون مكاتبهم صفقات بمئات الملايين، ليدبجوا دراسات إنشائية تافهة لنفس الوزارة تتحدث عن أهمية تناول فواكه البحر بالنسبة لأطفال العالم القروي!
مشكلة الفساد في قطاع التعليم تُحل بربط المسؤولية بالمحاسبة. وإلا ما معنى أن نرى مدراء إقليميين ومدراء أكاديميات ومدراء مركزيين حاليين وسابقين يستثمرون مئات الملايين في مدارس خاصة ضخمة، دون أن يسألهم أي أحد. كيف لمسؤول لا يتعدى التعويض الذي يحصل عليه 3 آلاف درهم شهريا أن يبني مدرسة خاصة بـ 400 مليون سنتيم في طنجة وورزازات وأكادير والقنيطرة ومكناس؟