أراك عصي الدمع
حسن البصري
في عز الأزمة المغربية الإسبانية، لا بأس من التوقف عند ذكرى رحيل دانيال ألبياك. هذا الرجل الإسباني العاشق للمغرب، الحريص على ارتداء الزي التقليدي حتى تخاله فقيها ورعا، المتيم بأنغام عبد الصادق شقارة حتى تظنه أحد مريديه.
شغل دانيال مهمة كاتب عام لنادي دار إسبانيا، وكان عضوا بارزا ضمن جمعية محبي فريق ريال مدريد الإسباني في المغرب، قبل أن يلقى حتفه في انفجار 16 ماي 2003 الرهيب. ظل على امتداد مساره الجمعوي مناصرا للمغرب، مؤمنا بدور كرة القدم في مد جسور التقارب بين الشعبين.
في يوم الفاجعة، حضر دانيال ألبياك على غير عادته متأخرا إلى دار إسبانيا، لم يتخلص من أحزان رحيل والدته، فقد ظلت وفاتها جاثمة على تقاسيم وجهه، حاول بعض رفاقه انتشاله من الحزن الذي يطوقه، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلا غير إقحامه في سجال «البارصا» والريال، فالرجل الهادئ لا ينتفض، إلا إذا شكك شخص في قوة النادي المدريدي أو نال منه.
قبل الفاجعة كان دانيال موجودا في إسبانيا، حيث حضر مراسيم دفن والدته التي توفيت أياما قبل انفجار دار إسبانيا، كان لديه إحساس داخلي بقرب المنية، فقد طلب من محاسبة النادي بتصفية عاجلة لديونه، دقائق قبل ملاقاة مصيره المحتوم، وكأنه يود الرحيل بدون متأخرات.
مات الرجل وهو يرتدي قميص الريال الذي لطالما افتخر برموزه، بل إنه حرص قيد حياته على تنظيم مباريات لفائدة أطفال المؤسسات الخيرية، تحت رعاية «لابينيا مدريديستا»، وساهم من موقعه كرجل أعمال إسباني يدير شركة لمواد التنظيف، في إقناع رجال الأعمال الإسبان المقيمين في المغرب بالاستثمار في «الرياضة الاجتماعية».
مات دانيال وهو يرتدي لون ريال مدريد، اختفى بياض قميص «بوتراغينيو» حين لطخته دماء الفقيد، وحين شيع جثمانه أصرت زوجته على أن يدفن في جوف تربة المغرب.
مات دانيال دون أن يحقق أمنية لطالما تقاسمها مع كثير من رواد النادي، إذ كان حلمه الكبير أن يرى أسماء نجوم الكرة المغربية، الذين صنعوا فرحة الإسبان منحوتة على مرافق رياضية في المغرب وفي إسبانيا. وكان يضرب كفا بكف كلما مر بالقرب من ملعب العربي بن مبارك، ولسان حاله يقول «اسمك يستحق ملعبا يليق بقيمتك».
رغم أن العربي حمل قميص أتلتيكو مدريد الغريم، إلا أن دانيال، عاشق الريال، كان يفتخر بالجوهرة السوداء، ويقضي وقتا طويلا في إقناع المسؤولين المغاربة والإسبان بحفظ الذاكرة الجماعية لـ«الليغا»، وتنظيم متحف في دار إسبانيا يؤرخ لغزوات المغاربة في الملاعب الإسبانية.
بقدر ما كان دانيال ألبياك صارما في مكتبه بالشركة التي يديرها، بقدر ما يغدو خفيف الظل بمجرد دخوله بوابة دار إسبانيا، حيث يجادل لاعب الرجاء عبد اللطيف بكار، ومسير الدفاع الحسني الجديدي عبد الكريم منديب في نقاش الكرة الذي لا ينتهي، شاء القدر أن يموتوا في الليلة نفسها.
كان الرجل نظيف المظهر يبدو كممثل في وصلة إشهارية لمسحوق نظافة، لكنه نظيف السرائر أيضا، مناضلا من أجل ملاعب تحمل اسم سفراء الكرة المغربية بإسبانيا.
مات الرجل قبل أن تتحقق أحلامه، وحين قرر نادي مالقا الإسباني إطلاق اسم الدولي المغربي السابق عبد الله الانطاكي على أحد المرافق الرئيسية لملعب «لاروزاليدا»، اعترافا بما أسداه اللاعب المغربي من خدمات لهذا الفريق، تذكر الناجون من محرقة دار إسبانيا أماني دانيال المؤجلة.
ليس طارق بن زياد هو فاتح إسبانيا، فقد صنع كثير من اللاعبين المغاربة أفراح جيراننا، كمحمد الرياحي والزاكي والتيمومي وناضر وبصير والنيبت وفاضل وحجي ونعيم وكماتشو واللائحة طويلة، كلهم دخلوا إسبانيا فاتحين، لم يدخلوها متسللين بجوازات مزورة وملامح باهتة وهويات مستعارة.