أراك عصي الدمع
حسن البصري
حين تقوم بإطلالة على الفضاء الأزرق ويكبر فيك حب الاستطلاع ومعرفة أخبار الناس، ستكتشف أن طرق «الفايسبوك» لا تؤدي كلها إلى معبد المعرفة، وستعرف بعد رحيل لدقائق أو ساعات بأنك تلج بيوت عزاء وتدخل مقابر في غفلة من الحراس.
مع جائحة كورونا أضحى العزاء عن بعد مستحبا، لا يغضب أفراد عائلة الموتى، فيبادلونه بنقر إعجاب تعني «سعيكم مشكور»، وأصبحت بضع كلمات تغني عن العناق والنواح في زمن الحزن عن بعد، وأحيانا تكفي وجوه بتقاسيم حزينة لتعبر عن حالة الحزن وتصرف النظر عن الكلمات.
أحيانا ينتابك شعور غريب سرعان ما تستفيق منه، تستنشق رائحة البخور وتقذف بك جولاته في مقابر فايسبوكية، لا فرق بينها وبين مقابر المسلمين إلا بغياب فيالق المتسولين.
في فضاء «الفايسبوك» يمكنك أن تتقاسم الأحزان وأنت محشو في بطانية، وتقدم فروض العزاء وسط ضجيج المقهى، وتبكي بدموع تترجمها وجوه اختارتها إدارة «الفايسبوك» لتسريع وتيرة التأبين، وحده عشاء الميت ما زال عصيا على مبتكري هذا الفضاء.
أصبح العزاء الإلكتروني «موضة» حتى أن بعض الأسر اختارت تعزية «سبونسوريزي» برعاية مستشهر مرفقة بصورة الميت، أملا في جلب آلاف التعليقات واللايكات، أو «سطوري» يقرب الناس أكثر من تفاصيل الوفاة، بل إن بعضهم اختزل حفل الفناء بكل طقوسه وأقام ليلة تأبين إلكترونية حضر فيها السماع والمديح ورفعت أكف الضراعة إلى العلي القدير ليشمل برحمته الفقيد، وكان أصدقاء الراحل يتابعون عبر تقنية «زووم» وقائع حفل التأبين العابر للقارات.
لكن بقدر ما يسعى الناس إلى الإخبار عن الموت، بقدر ما يسقط كثير منهم في التسرع، فيصبح الأحياء في عداد الموتى فايسبوكيا قبل أن يموتوا سريريا، وهذه «الخفة» غالبا ما تستهدف المشاهير الذين يموتون مرات ومرات، فيضطر «الميت» إلى الإدلاء بشهادة الحياة مصادق عليها من أسرة وأقرب المقربين منه.
يقول بعض الفقهاء إن العزاء الإلكتروني واستعمال الوجوه التعبيرية الباكية، لا يجلب لصاحبه أجر العزاء وأجر السير وراء الجنازة وأجر اقتسام الأحزان، فالذهاب إلى بيت الميت فيه أجر مع كل خطوة، حتى ولو بتبادل عزاء بدون لمس أو آهات.
في زمن المشاعر الإلكترونية يغيب الإحساس الحقيقي بالعزاء، وتنطفئ لوعة الفراق لمجرد إبحار في الشبكة العنكبوتية نحو مرفأ آخر، أحيانا تنتقل من ظلمة الموت إلى ضفة الروتين اليومي، فتجد نفسك مساهما في اقتصاد التفاهة من حيث لا تدري. وأحيانا تشاء الصدف أن يظهر خبر وفاة عزيز بمقربة من إخبار بحدث سعيد، فينتابك شعور غريب ويبدو وكأن المشهد أقرب لزفاف مجاور لمأتم في الحارة نفسها، وتارة يتعايش الخبر الحزين مع تدوينة أشبه بقنبلة مسيلة للضحك.
نحن أمام حائط مبكى جديد يقبل فيه واجب العزاء، وغالبا ما يعاتب أهل الفقيد صديقا لم يكلف نفسه عناء العزاء الإلكتروني، أو اكتفى بنقرة حزينة. تبا لزمن عزاء مضى لم يكن يكتمل إلا بحضور قوالب السكر، وتبا لمن يصر على أن يذهب المتوفى إلى قبره وحيدا، رفقة سائق سيارة نقل الأموات وفئة قليلة من أسرته وحفار قبور، والباقي يكتفي بسعي فايسبوكي مشكور.
لا يمكن التحكم في العالم الافتراضي.. لقد بات خارج السيطرة، وأصبح السراب يعرض في عبوات مختومة على أنها ماء زمزم، وظهرت فئة من قاطني «الفايسبوك» مهمتها إعادة نشر المعلومات دون التحقق منها، اعتقادا منها أن الخطأ والصواب على ذمة الراوي.
من يقرأ رواية «يوتوبيا» للكاتب المصري الراحل أحمد خالد توفيق، سيتوقف عند ضفة العالم الافتراضي الذي أصبح يشكل طبقة اجتماعية قائمة الذات، يسكنها أثرياء وفاعلو خير افتراضيون، ويقيم فيها صعاليك في الدروب الهامشية للسكن الإلكتروني.
نحن إذن أمام تحول خطير سيجعلنا يوما نقرأ الشهادة مباشرة نيابة عن شخص يحتضر، ونجلس على رصيف الحزن لنمطره بشآبيب النقرات.