إعداد وتقديم: سعيد الباز
واجه أدب الخيال العلمي منذ نشأته أحكاما مسبقة من قبيل كونه أدبا قاصرا عن بلوغ مرتبة الآداب الرفيعة، وأنّ غايته تقتصر على التسلية وخلق الإثارة والتشويق لدى عامّة القرّاء. لكنّ واقع الحال يؤكّد أنّ لأدب الخيال العلمي وظيفة أساسية تتمثل في استباق روح العلم في الكشف عن مآله في المستقبل القريب والبعيد، ومن جهة أخرى الجمع بين العلم والأدب في بوتقة واحدة أساسها البحث عن سبل تطوير حضارة الإنسان والسعي إلى تقدّم الحياة الإنسانية على كافة المستويات.
ومن أهمّ القضايا التي شغلت كتّاب أدب الخيال العلمي فكرة نهاية العالم انطلاقا من استقراء الواقع الإنساني الراهن لاستشراف آفاق المستقبل البعيد. ومن أبرز مؤسسي أدب الخيال العلمي الإنجليزي هربرت جورج ويلز الذي أبدع أعمالا مؤثرة في هذا المجال، من أهمها «آلة الزمن» و«الرجل الخفي» و«أوائل الرجال على القمر» و«بلد العميان»، التي طرح فيها عدّة أفكار استبق فيها عصره، بل ما زالت بعضها سابقة حتى لعصرنا الحالي. لكنّ روايته «حرب العوالم»، التي نشرها سنة 1898، والتي يصوّر فيها غزو كائنات من المريخ لكوكب الأرض، حازت على الإعجاب منذ ظهورها إلى اليوم وألهمت الكثير من كتاب الخيال العلمي في مجال غزو الفضاء.
الشاعر والكاتب الأمريكي إدغار آلان بو Edgar Allan Poe لم يكن فقط رائدا للقصة البوليسية، بل أسهم ضمنيا في نشأة أدب الخيال العلمي، خصوصا في جانبه المرعب والكابوسي المسمّى «الديستوبيا Dystopia»، حيث تناول بشكل مسبق، في قصته «قناع الموت الأحمر» التي نشرها سنة 1842، حكاية بلد متخيّل أصابه وباء مجهول، ما اعتبره معه الكثير من الدارسين الأب الحقيقي لهذا النوع الأدبي.
من جانبه، ظل الأدب العربي بعيدا عن الخيال العلمي لعدة أسباب بديهية، ورغم بعض المحاولات المحتشمة، ظهر جيل جديد اقتحم هذا المجال الصعب مثل الكاتب أحمد خالد توفيق، الملقب بالعرّاب، والذي استهوت أعماله القراء، خاصة رواية «يوتوبيا» بفكرتها المستقبلية والخلاقة، حيث يتخيل أنّ في مصر سيعتزل الأغنياء في مستعمرة خاصة تاركين الفقراء خارجها يتصارعون بينهم حول لقمة العيش.
الكاتب المصري محمد ربيع، في روايته «عطارد»، يتخيّل أفقا آخر لمرحلة ما سمي بالربيع العربي من خلال سقوط بلاده مصر ضحية احتلال غامض، وبعد سلسلة متواصلة من المقاومة الشرسة، بدلا من عودتها إلى الاستقرار تسقط في فوضى داخلية عارمة.
هذه الأعمال الأخيرة وغيرها مثل رواية «فرانكشتاين» للكاتب العراقي أحمد السعداوي، تؤشر دون شك على بداية تشكّل توجّه جديد في الأدب العربي يتوخى المزيد من الاهتمام بأدب الخيال العلمي.
هربرت جورج ويلز.. «حرب العوالم»
قال الملازم : «أنتما أوّل رجلين أراهما في هذا الطريق هذا الصباح. ما الأمر؟». طغى الحماس على صوته ووجهه، بينما حدّق الرجلان اللذان كانا يقفان خلفه وقد اعتراهما الفضول. وثب المدفعي من فوق منحدر في الطريق، وألقى التحية.
– دمّر المدفع الليلة السابقة يا سيدي. كنت مختفيّا أحاول اللحاق بالسرية يا سيدي. أظنّ أنّك سترى المريخيين على بعد نحو نصف ميل على هذا الطريق. سأل الملازم: وكيف تبدو هيئتهم؟
– عمالقة يرتدون دروعا معدنية يا سيّدي، يبلغ طولهم نحو ثلاثين مترا. لديهم ثلاثة أرجل وجسد يشبه الألومنيوم ورأس ضخم للغاية تغطيه قلنسوة يا سيّدي. قال الملازم: اغرب عن وجهي! ما هذا الهراء؟!
– سوف ترى يا سيّدي. إنّهم يحملون صندوقا يطلق النار ويُرْدي من يصيبه قتيلا يا سيّدي.
– ماذا تعني… مدفع؟ أجاب المدفعيّ: «لا يا سيّدي» وشرع في تقديم وصف حيّ للشعاع الحراري. وفي منتصف حديثه قاطعه الملازم ونظر إليّ. كنت لا أزال واقفا على المنحدر بجانب الطريق. قلتُ: ما يقوله صحيح تماما. قال الملازم: «حسن، أفترض أنّ من مهام عملي أن أرى ذلك.».
لم يعرف أحد في لندن يقينا طبيعة المريخيين المدرعين، وكانت لا تزال هناك فكرة ثابتة عن أنّ تلك الوحوش لابدّ أن تكون متثاقلة الحركة، فتعبيرات مثل تزحف وتتسلّل بمشقة… كادت ترد في جميع التقارير السابقة. لم تكتب أيّ من قبل شاهد عيان على تقدمهم. أصدرت صحف الأحد طبعات منفصلة كلّما وردت أخبار جديدة، بل وأحيانا في ظل غياب تلك الأخبار. لكن لم يكن هناك ما يقال للناس حتى وقت متأخر من فترة الظهيرة عندما أدلت السلطات بما لديها من أنباء لوكالات الأخبار.
في تلك الصحيفة قرأ شقيقي تلك البرقية الكارثية عن رئيس الأركان: «يوسع المريخيين أن يطلقوا سحبا هائلة من بخار أسود سام باستخدام الصواريخ. لقد أبادوا سريات المدفعية وأتوا على ريتشموند وكنغستون وويمبلدون، وهم الآن يتقدمون شيئا فشيئا نحو لندن يبيدون كلّ شيء في طريقهم، إيقافهم أمر مستحيل. لا منجى من الدخان الأسود إلّا بالفرار العاجل.». كان هذا كلّ شيء، لكنّه كان كافيا. كان سكان المدينة الكبرى البالغ عددهم ستّة ملايين نسمة يتحركون في اهتياج ويركضون مسرعين، حينها كان الجميع يتّجه شمالا.
تعالت الأصوات: «دخان أسود! حريق»!
لا شكّ أنّ الشغل الشاغل لعدد كبير جدّا من أصحاب العقول اليقظة، مثلما كان الحال معي، هو اللغز الخاصّ بمدى فهم المريخيين لنا. هل استوعبوا أنّنا بأعدادنا التي تبلغ الملايين كنّا منظمين منضبطين ونعمل معا؟ أم أنّهم نظروا إلى الإطلاق السريع للنيران، والإطلاق المفاجئ للقذائف، وحصارنا الدائم للمخيم، هم مثلما ننظر نحن إلى الهجوم الجماعي المحتدم القادم من خلية نحل تعرّضت للإزعاج؟ هل راودهم الحلم بأنّهم سيتمكنون من إبادتنا؟ تصارعت مئات هذه الأسئلة في عقلي وأنا أشاهد ذلك الشبح الضخم المنوط بمهمة الحراسة. وكان للتفكير في كلّ القوى الخفية والمجهولة في الطريق إلى لندن حضور ضبابي في عقلي. هل نصبوا فخاخا؟ هل مصانع البارود في «هاونسلو» جاهزة لأن تكون شركا لتلك الكائنات؟ هل يتمتع سكان لندن بالشجاعة والبأس اللذين يمكّنانهم من التصدي لهؤلاء الغزاة؟
أحمد خالد توفيق.. «يوتوبيا»
ستة عشر عاما… وقرون من الخبرات المتراكمة… مثل أباطرة الرومان قد جربتُ كلّ شيء وعرفتُ كل شيء… ليس هناك من جديد يثير فضولك أو حماسك في (يوتوبيا)… لا شيء يتغيّر… أحيانا يخيّل لي أننا معتقلون وأنّ الذين بالخارج هم الأحرار… يذكرك الأمر بمعسكرات الاعتقال النازية التي تراها في أفلام الحرب…
(يوتوبيا) المستعمرة المنعزلة التي كوّنها الأثرياء على الساحل الشمالي ليحموا أنفسهم من بحر الفقر الغاضب بالخارج، والتي صارت تحوي كلّ شيء يريدونه… يمكن أن ترى معي معالمها… البوابات العملاقة… السلك المكهرب… دوريات الحراسة التي تقوم بها شركة (سيفكو) التي يتكون أكثر العاملين فيها من (مارينز) متقاعدين… أحيانا يحاول أحد الفقراء التسلل للداخل من دون تصريح، فتلاحقه طائرة الهيلكوبتر وتقتله كما حدث في ذلك المشهد الذي لا يفارق خيالي.
منطقة المولات… ثمّ ترى القصور… قصر (علوي) بك ملك الحديد… قصر(عدنان) بك ملك اللحوم… قصر أبي ملك الدواء… ثم المطار الداخلي… هناك مطار طبعا حتّى لا تضطر للخروج… في الماضي كان يسيطر على قومي هاجس الهرب للمطار لو أنّ الآخرين بالخارج ثاروا… رحلة المطار ستكون شاقة ومريعة وخطرة… سوف يعترض الأغيار طريق السيارات ويمزقون من فيها… أنا أعرف هذه الأمور لأنني أقرأ كثيرا… القصص كثيرة بدءا بالثورة الفرنسية حينما جاب الرعاع شوارع باريس وهم يعلقون ثدي الأميرة (دي لامبال) على رمحين، وانتهاء بالثورة الإيرانية في سبعينات القرن العشرين، عندما وجد مدير(السافاك)- على ما أذكر- سيارته محمولة فوق الأعناق وهو فيها، ومن ثم لم يجد حلّا إلّا أن يدسّ المسدس في فمه ويضغط الزناد… ربّاه! حتّى وأنا أكتب هذه الكلمات شعرت بقشعريرة لذة! مسدس في فمك… معدن بارد… وضغطة تنهي كلّ شيء!
خشية من رحلة المطار هذه قرر قومي أن يبنوا مطاراتهم الخاصة داخل مجتمعاتهم… مع الوقت لم يعد هناك خطر من الثورة، لكن المطارات ظلت في مكانها على سبيل الترف…
محمد ربيع.. «عطارد»
خطّ الدم هذا يذكرني بأشياء كثيرة.
هو مرسوم على الحائط، ليس عموديا بل يميل بزاوية صغيرة، وينتهي أعلاه بمنحنى حادّ ليعود طرفه إلى الأرض، ونقاط صغيرة تتدلى منسابة من طرف المنحنى وقوسه. يذكرني بالريشة الحرّة في ذيل النعامة، وبخطّ الماء الصاعد من مركز النافورة، وبمسار جمرات الألعاب النارية المنطلقة في السماء.
المقاومة مكونة من ضباط شرطة سابقين فقط، هناك عدد قليل جدّا من ضباط الجيش، وهؤلاء لا يطّلعون على كلّ شيء ويعتبرون أعضاء من الدرجة الثانية، ولا يتمّ تكليفهم إلّا بالمهمات الانتحارية أو الخطرة جدّا. هناك عدد أقل من المواطنين العاديين، تدفعهم الحماسة الوطنية إلى ارتكاب أفعال حمقاء ولكنّها فعّالة، راغبين في التخلّص من الاحتلال. وهؤلاء لم يقوموا إلّا بعمليات التجسّس، ونقل المعلومات، لا يعرفون أعضاء المقاومة من ضبّاط الشرطة، لا يعرفون أسماء القادة أو أماكن الاجتماعات، لا يحملون سلاحا، ومن يرغب في التطوع منهم، فكلّ ما يقدّم له سلاح أبيض وعليه التعامل به مع العدوّ المحتل. كانت المقاومة المصرية، بشكلها هذا، جنّتنا. نموذج مثالي لذكاء جهاز الشرطة المصري وتفاني رجاله في خدمة الوطن، وحرصهم على عدم إدخال أيّ غريب وسطهم، حتّى لو كان وطنيا حقّا وكارها الاحتلال، كالمواطنين العاديّين. كلّنا كنّا نعرف أسباب انفرادنا بالمواقع المهمة في المقاومة، وهي عديدة لا يمكن حصرها، على سبيل المثال لأنّ المواطنين ضعفاء في الأصل، ينحازون إلى أسرهم الصغيرة، ومتعهم التافهة، هم غير مدرّبين على استخدام السلاح أو على العمل في مجموعات أو تحمّل المسؤولية، وحتّى لو كان المواطن مدرّبا على كلّ ما سبق، كضبّاط الجيش مثلا، فسينقصه حتما القدرة على التصرّف في الأوقات الحرجة. قال كريم إنّ ضبّاط الجيش السابقين اكتسبوا جرأة انتحارية لا حدود لها، وقال إنّ تلك الجرأة سببها هزيمتهم المنكرة، ورغبتهم في التكفير عن خطيئتهم في حقّ البلد، قال إنّ عذابهم مقيم ودائم، وهم على الاستعداد للانتحار ببساطة من أجل جرح أحد جنود الاحتلال. كان هذا مناسبا جدّا، وفكّرت أنّنا مع زوال الاحتلال، ولا أعلم متى سيحدث هذا، سنكون قد تخلّصنا من رجال الجيش السابقين تماما، من يرغب في سيطرة الجيش مرّة أخرى على البلاد؟
كانت المقاومة لنا فقط، شركة ضخمة يديرها خيرة ضبّاط الشرطة، غرضها الأساسي والوحيد طرد المحتل. والحقيقة أنّي لم أكن لأهتمّ على الإطلاق بضبّاط الجيش، هؤلاء انتهوا تماما مع أوّل يوم من الاحتلال، ولن تقوم لهم قامة إلّا إذا سمحنا بذلك. كان يعنيني -حقا- السذّج من المواطنين العاديّين، عرفت من الزميل أنّ هؤلاء كانوا يقادون إلى حتفهم دو أيّ اهتمام. لم أتعاطف معهم إلّا عندما رأيت الأغلبية الساحقة من المواطنين يعيشون في رضا تام تحت الاحتلال. قلت في نفسي إنّ هناك من لا يزال يهتمّ بهذا البلد.
كان كلامه مطمئنا، وأخبرني أنّهم يريدوننا قنّاصا. وأنّ عليّ ألّا أتردّد كثيرا فأنا مطلوب للعمل على وجه السرعة. استعدت ذكرياتي في شرطة المطار وفي الحراسات العامّة كقنّاص. كنت قد أمسكت البندقية عشرة أعوام، وتطلّعت إلى العالم ناظرا من خلال العدسات ساعات عدّة، واستسلمت لإغراء التلصّص بعد مقاومة ضعيفة، وأطلقت النار على أربعة أشخاص.
قال العميد عادل: «علمنا أنّك لم تخطئ قطّ».
وافقت من فوري، وأبديت استعدادي للعمل دون أيّ شرط أو تحفّظات، قلت له إنّ المشكلة الوحيدة أنّي لا أملك أيّ سلاح الآن، وأنّ على المقاومة أن توفّر لي بندقية بمنظار. ابتسم وقال إنّ هذه ليست مشكلة.
إدغار آلان بو.. «قناع الموت الأحمر»
منذ زمن بعيد وطاعون «الموت الأحمر» يهلك الحرث والنسل في هذه البلاد، إذ ما من وباء كان ليضاهي فداحته وبشاعته أبدا، فقد كان يتجسد بالدماء أما علامته فقد كانت احمرار الدم ورعبه، ويصاحب هجومه الشرس آلام شديدة ودوار مفاجئ يتبعه نزيف حاد، أما البقع القرمزية التي يخلفها على الجسم وخاصة تلك المنطبعة على وجه الضحية فقد كانت بمثابة الوباء اللعين الذي يحول دون وصول المساعدة إليه أو حتى من إشفاق أصحابه عليه، بيد أن هذه النوبة المرضية بأكملها من تطورها حتى انتهائها لا تتعدى زهاء أحداث نصف ساعة من الزمن!
ورغم هذا الرعب الذي كان يزرعه الموت الأحمر في النفوس إلا أن أمير البلاد، بروسبيرو، لم يكن مكترثا لذلك، إذ عندما فتك هذا المرض اللعين بنصف سكان أراضيه الخاصة دعا إلى حضرته أكثر من ألف صديق من بين فرسان قصره الأصحاء، ونساءه الحسناوات، واختلى بنفسه بعيدًا مع هؤلاء المدعوين في إحدى أجمل كنائسه الحصينة وأوسعها حيث كان هذا الذوق الغريب والمهيب نِتاج إبداع الأمير نفسه، لقد كانت الكنيسة مسوّرة بجدار منيع وشامخ وتحرسها بوابات حديدية، وفور دخول رجال الحاشية إلى الكنيسة أحضروا الأفران الملتهبة والمطارق الضخمة وقاموا بلحام الأقفال سعيا إلى إحباط أدنى وسيلة للدخول إليها أو الخروج منها لأي سبب كان، كما تم توفير جميع المؤن الضرورية داخل الكنيسة، حيث سيتسنى لرجال الحاشية الآن تحدي العدوى بهذه التدابير الوقائية، أما العالم الخارجي فبإمكانه الاعتناء بنفسه، ذلك أن مجرد الحزن على أولئك القابعين في الخارج أو التفكير بحالهم لا يعدو كونه حماقة كبرى، والفضل في هذا يرجع إلى الأمير حيث قام بتوفير جميع سبل الراحة والترفيه من مرتجلين وراقصات الباليه وعازفي الموسيقى والحسناوات والشراب، وجميع هذه المظاهر كانت بمأمن في الداخل أما في الخارج فقد كان يقبع «الموت الأحمر».
وعندما اقتربت عزلة الأمير في داخل كنيسته من شهرها الخامس أو السادس، قام باستضافة أصدقائه الألف لحضور حفلة رقص تنكرية لم يسبق لها مثيل. لقد كانت هذه الحفلة التنكرية مسرحا مثيرًا للحواس، لكن في البداية اسمحوا لي أن آخذكم في جولة داخل القاعات التي أُحييت فيها هذه الحفلة، لقد كانت سبع قاعات… واحتفاءً بهذه المناسبة العظيمة قام الدوق بنفسه بالإشراف على الجزء الأكبر من هذه الزخارف المتحركة في الغرف السبع، كما أنه هو شخصيًا وجّه جميع المحتفلين إلى تقمص شخصياتهم التنكرية حسب ذوقه الخاص، حيث شدد على أهمية ظهورهم بشكل مشوه، لقد كان المكان مشوبًا بالكثير من الوهج والتألق، بالإثارة والخيال… حتى إذا ما مضى وقت طويل تبدأ بعده الساعة بترديد أصداء منتصف الليل، عندها تحبس الموسيقى أنفاسها، يهدأ نشاط الراقصين ويخيم على المكان سكون مضطرب في كل شيء كالسابق، ولكن في هذه المرة سيصدر جرس الساعة اثنتي عشرة دقة، وهكذا بدأ العد لتتزاحم معه الكثير من الأفكار ويمتد معه الاستغراق في التأمل وسط أولئك المعربدين، وهكذا قبل أن تغرق آخر أصداء الدقة الأخيرة في صمت عميق كان هناك العديد من المحتشدين الذين ما أن أحسوا بالراحة حتى انتبهوا لوجود شخص مقنع لم يلفت انتباه أي منهم من ذي قبل، وبدأت إشاعة ظهور هذا الزائر الجديد بالانتشار في جميع الأروقة، ولم يحدث أزيز المحتفلين وهمهمتهم بهذه الإشاعة تقززا فقط بل ورعبا مخيفا أيضا. وبالفعل طاف على الجميع شعور عميق بأن ملابس الغريب ومغزاه من هذا التنكر لا ينمان عن خفة دم ولا أدب ظاهر، فهذا الشكل البشري الطويل والهزيل مكفن من رأسه إلى أخمص قدميه بأكفان المقابر، أما القناع الذي يواري خلفه صفحة وجهه فقد صُنع بطريقة تشبه ملامح جثة متيبسة يصعب على أدق الفحوص اكتشاف الخدعة التي عملت بها، ومع ذلك كان بإمكان المعربدين الغاضبين في الجوار تحمل هذا النوع من الدعابات وإن لم يستسيغوها لولا تمادي هذا المهرج المتنكر في طريقة تنكره إلى درجة أنهم شبهوه بأحد أنواع الموت الأحمر، فقد كان رداؤه يعتصر دما، أما حاجبه الواسع وجميع ملامح وجهه كانت تمطر رعباً قرمزيا. وقف الأمير في الغرفة الزرقاء وإلى جانبه مجموعة من أفراد حاشيته وقد كسا الشحوب وجوههم، في البداية وأثناء ما كان الأمير يتكلم هرعت جماعته بحركة خفيفة تجاه الشخص الدخيل الذي كان في هذه اللحظة أيضا قريبا من قبضتهم وهو يهم بخطى حثيثة وثابتة ليدنو من الأمير، ولكن كان لتلك الهيبة الغامضة التي فرضتها تلك الإشاعة بتخيلاتها المجنونة على الجميع لم تتح لأي منهم المجال لأن يحرك ساكنا للقبض عليه، وهكذا وبدون أية إعاقة عبر المتنكر فناء شخص الأمير ذاته، حينها استل الأمير خنجره المغمود عاليا ودنا سريعا بمقدار ثلاثة أقدام أو أربعة من الشخص الدخيل، ولكن عندما وصل هذا الأخير إلى آخر أتون الغرفة المخملية استدار فجأة ليواجه الشخص الذي يطارده… هناك انطلقت صرخة شديدة سقط إثرها الخنجر اللامع على السجادة الداكنة التي ما لبثت هي الأخرى حتى خر عليها الأمير بروسبيرو ميتا، واستجمع المحتفلون قواهم البائسة وألقوا بأجسادهم دفعة واحدة داخل الغرفة السوداء وهموا بإحكام قبضتهم على المتنكر الذي مازال هيكله الفارع والنحيل منتصبا بلا حراك تحت ظل ساعة الأبنوس، إلا أنهم صعقوا جميعا عندما رأوا الأكفان والجثة حالها حال القناع الذي تنازعون بينهم بعنف، ليتبين لهم في نهاية المطاف أنّ ما من جسد ملموس بداخلها!
وتيقن الجميع الآن من وجود الموت الأحمر بينهم، فقد تسلل إليهم وأخذ يلقي بالمعربدين الواحد تلو الآخر في القاعات المضرجة بالدماء وكل منهم يسقط أرضا يموت على تلك الحالة المزرية لسقوطه أرضا. ومع آخر ألوان المرح تلفظ الساعة أنفاسها الأخيرة وتخمد ألسنة المشاعل ويسدل الظلام عتمته الموحشة ويعم الخراب والدمار في كل مكان ويبسط الموت الأحمر هيمنة مطلقة على كل شيء..