أحمد بن عجيبة.. «المحبّ الفيلسوف»! -2-
الدلالة على الله هي الدلالة على نسيان النفس، هنا يتم تقويض كل الثنائيات الميتافيزيقية التي من شأنها أن تقف حاجزاً في طريق السلوك إلى الحقيقة المطلقة. فإذا نسيت نفسك ذكرت ربك. «واذكر ربّك إذا نسيت»- الكهف: 24. ربما، وعلى عكس هذا التصور، كان الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه يميل إلى العدمية، ولا يرى في القيم الأخلاقية سوى إرادة قوة تحاول أن تستغلها بعض الفئات الاجتماعية من أجل فرض هيمنتها وسلطتها على الجميع، لكن في الفكر الصوفي لدى ابن عجيبة، فإن ذكر قيم النفس يتحول إلى تعب ومشقة، حجاب عن الحق، وكل من غاب عنها لا يلقى إلا السعادة المطلقة.
ابن عجيبة لا يريد أن يفرض قولا أو قيماً على المحبين إلا تلك التي تخلصك من وهم الاعتقاد بأن الذات الإنسانية مطلقة. ويمكن أن نقول إن الإنسان المفرط في إنسانيته عند نيتشه يمكن أن يجد صورته الحقيقة في التصوف، فهو الأقدر على الإحسان بأقل المخلوقات درجة من الإنسان، برفعها إلى أعلى المراتب، وصاية وعبادة وتدبراً لجوهر الاستخلاف في الأرض.. وكلنا يتذكر كيف أن نيتشه سقط صريعاً عندما وقف أمام رجل مانعاً إياه من ضرب حصانه بالسياط. إنها وقفة إنسان صوفي الإحساس بمعنى من المعاني العميقة للتصوف لا كما يشاع عن هذا الفكر الشريف.
ولتحقيق المحبة يتحدث أحمد بن عجيبة عن مفهوم «الفطم»، مع العلم أن هذا المفهوم مرتبط تداولياً بالمشترك الإسلامي، إلا أن الفكر العجيبي يعطيه دلالات مفارقة؛ فنجده يتحدث عن ضرورة السالك في رحلته الروحية إلى منازل القربات من الحق المطلق، عليه أن يقطع ست عقبات: «فطم الجوارح عن المخالفات الشرعية حتى يشرف على منابع الحكمة، وفطم القلب عن الرعونات البشرية حتى يطلع على أسرار العلوم اللدنية، وفطم النفس عن الكدورات الطبيعية حتى تلوح له أعلام المناجات الملكوتية، وفطم الروح عن البخورات الحسية حتى تلمع له أنوار المشاهدات الحبية، وفطم العقل عن الخيالات الوهمية حتى يهبط من خلالها على رياض الحسرة القدسية»، فهنا يغيب بما يشاهده من اللطائف الأنسية. فإذا أرادك الحق سقاك من محبته شربة تزداد ظمأ وبالذوق شوقاً، وبالقرب طلباً وبالسكر قلقاً.
إن هذا النوع من الفطم ينقلك من المستوى البيولوجي للإنسان إلى المستوى الروحي له، حتى تصير كائناً روحانياً، ينخرط في سلسلة الذرات التي لا تنسى ذكر الله لحظة. ومن الملفت للنظر أن أقوى درجات هذا الفطام، والذي لا يمكن أن نصل إليه إلا بعد أن نجرب أنواعاً أخرى منه، هو فطم العقل عن الخيالات الوهمية، بمعنى أن الصوفي يولي أهمية قصوى للعقل ولقدراته التي بها تتحقق منازل المحبة والوصال. العقل هنا في مقابل الوهم، بمعنى أن السلوك الصوفي سلوك عقلاني عكس ما شاع عنه عند عامة الباحثين. وما الجملة التي وجدها سقراط في معبد دلفي «اعرف نفسك» سوى ترجمة عرفانية لــ«من عرف نفسه عرف ربّه». وكما قال ابن مالك في حرز الأماني: «فيا عاطر الأنفاس أحسن تأوُّلا»!
كان ذلك من طرف من ينسب بوزان، عندما اتهم زوراً أخ الشيخ ابن عجيبة بتلقين امرأة الورد في غيبة زوجها، إنما لقنها مع بعض النساء في دار غيره، وهو لا يعرفها. فقبض عليه القائد، فلما سأل أحمد بن عجيبة القائد قال له: «أنت لا دعوى عليك». فقال الشيخ: «أنا لا أفارق أخي». فأمر بسجنه معه. ثم قبض على فقراء تطوان كلهم، وكل من جاء لزيارة الشيخ من المريدين والعلماء. ويقول الشيخ تعليقاً على هذه الواقعة: «فبقينا في السجن ثلاثة أيام. والله ما رأينا أياماً كانت أطيب من تلك الأيام. انقلب السجن زاوية وصار كله يذكر الله.. وزال غمهم ما دمنا معهم». والمحن عند الصوفية منح من الله، كلّما صبر السالك على نارها ارتقى رتبة في مدارج المحبة. هي أهوال في طريق الوصال. محن أخرى مرّ منها الشيخ الصالح؛ فعندما خرج إلى الزميج، ضواحي مدينة طنجة، هجم عليه أهل المدشر، فأخرجوه وحرقوا بيته، ونهبوا ما وجدوا فيه من فراش وغيره، وكذلك الفقراء، نالهم ما نالهم، منهم من رجع عن الطريق خلق كثير بسبب المحن، وكانوا لم يتمكنوا من حلاوة الطريق فنفضهم ريح التصفية. ولم يبق إلا الصحيح.