أحمد الغول
حين كان حي درب ميلان الشعبي منشغلا بمقتل مشجع الرجاء البيضاوي (أشرف)، واعتقال عدد من عناصر الجناح المسلح لإلتراس الفريق، فإن حي الفرح المجاور كان يعيش حدادا صامتا بسبب وفاة أحد معالمه «أحمد الغول»، الرجل الذي حكم الدار البيضاء حين كانت بالأبيض والأسود، قبل أن تنتهي في يد «المشرملين» في إطار التناوب على الحكم.
لا يعرف كثير من أبناء حي الفرح الفقيد أحمد، إذ يختزلون نجومية الحي في نور الدين النيبت، ويجهلون أسماء شعرائه ومفكريه وسياسييه وصعاليكه، كما يجهلون سر تسميته بحي الفرح، رغم أن الفرح في زقاقين والباقي كله محنة وهشاشة وعذاب.
مشى خلف جنازة أحمد عدد قليل من المشيعين، أغلبهم سمعوا عن فتوته وتواتروا حكايات «جدعنته»، حين كان القاضي والمتهم في قضايا شغب الدار البيضاء، يصدر أحكامه الاستعجالية وينفذها قبل أن يسدل الليل ستائره على المدينة، وقليل من مشيعي جثمانه ظلوا يعتقدون أن الملفوف في الكفن كان «بلطجيا» يزرع الرعب في البلاد والعباد، في زمن كان الشعب يحفظ أسماء فتواته ولا يعرف أسماء ثواره.
حين كان أحمد الغول يصول ويجول مستعرضا قوته الطبيعية الخارقة، فإن المدينة كانت تعلن من تلقاء نفسها حالة الطوارئ، يندس الرجال في بطاطينهم الدكناء، وتختلس النساء نظرات من بين الشقوق لرؤية الفتى الأول لملحمة الدار البيضاء، وهن يمنين النفس بفتى أحلام على مقاسه المرعب، قبل أن تتغير أحلام الفتيات ويستبدلن الغول بالمطرب تامر حسني.
لو عاش أحمد شبابه في زمن «واتساب» و«فوتو شوب» و«فايسبوك»، لبادر مارك زوكربيرغ، صاحب موقع «فايسبوك»، إلى وضع صورة له رفقة الغول وكتب عليها عبارة «لن أنسى فضلك علي يا أحمد أنت حامي فايسبوك من الظالمين»، ولخلد محرك البحث ذكراه ووضع صورته مرفقة بنداء «واغولاه».
لو قدر للفقيد أن يعيش في هذا الزمن لتسابقت نحوه شركات الإشهار واستثمرت صورته لتحطيم المنافسة، قبل أن تخطفه السينما لتمكنه من احتكار أدوار القوة والشهامة.
حين جالست، في مثل هذا الشهر من العام الماضي، أحمد الغول في مقهى بحي الفرح، انتابني شعور بالرهبة وخلت نفسي أمام صدام حسين في آخر أيامه، للتشابه الحاصل بين الحاكمين، كنت بصدد رسم «بروفايل» رجل استثنائي في تاريخ الدار البيضاء، ليكون مادة تقدم في وجبة رمضانية بصحيفة «الأخبار»، وزاد من دهشتي حين كشف لي عن اسمه العائلي هو «الراكع»، قبل أن ينتشلني من حالة الشرود ويقول لي: «أرفض الركوع إلا للواحد القهار»، وأعاد بطاقته التعريفية إلى جيب سترته.
لم يكن لـ«التشرميل» وجود في قاموس العنف، حين كانت أحياء الدار البيضاء تحت حماية رجل بمثابة قوات لحفظ السلام في المدينة، وكان للعراك ميثاق أخلاقي يبعده عن الاعتداء، إذ نادرا ما يجرؤ فتى على ممارسة النشل والغارة على أملاك الغير، بل إن المعارك التي كانت تدور رحاها بين جبابرة «كازابلانكا» لم تعتمد على أسلحة الدمار الشامل، وحدها القوة الطبيعية هي كلمة الحسم في النزالات التي قد تدوم وتدوم.
خلافا لجيوش «المشرملين»، فإن الغول كان عفيفا رافضا للريع الاقتصادي الذي عرضه عليه أحمد مطيع، العامل السابق للدار البيضاء، وضدا على منطق العنف فقد كان الرجل عاشقا لفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب، تدمع عيناه حين يسمع «جفنه علم الغزل»، ويغمض جفنيه انتشاء عندما يشدو فريد «يا حبايبي يا غايبين»، حينها أيقن الجميع أن للرجل قلبا ووجدانا.
هناك فرق شاسع بين أحمد الغول وبدر هاري، الأول لم يكن له ملايين المحبين الذين يمطرونه بنقرات «جيم»، لأنه عاش قبل وضع الحجر الأساسي لمنشآت ومواقع التواصل الاجتماعي، ولم يكن له مدرب ووكيل أعمال وملحق إعلامي، لكن رصيده من الشهامة غير محدود، والثاني مواطن يرفع علم المغرب كما يرفع حكم الشرط رايته، ويعشق النادي القنيطري أقل من عشقه لريال مدريد، يدافع ببسالة عن كريستيانو رونالدو حتى أصبح الراعي الرسمي لسهراته المراكشية الماجنة، ويتوعد خصومه وكأنه نسخة منقحة من «تأبط شرا».