شوف تشوف

الرأي

أحلام باردة

جهاد بريكي

هذه الليلة باردة كما لم تكن بالأمس، توقعات بشتاء سيهطل على استحياء، كعذراء تعترف بحبها لأول مرة، أحاول النوم باكرا هذا المساء، على غير عاداتي السيئة، أحمل رواية بديعة طويلة تتجاوز السبعمائة صفحة وتأبى الانتهاء، أقرؤها منذ شهور عديدة، كلما حملتها بين يدي سألت الكاتب سؤالا واحدًا لا غير: هل أنت بشر مثلنا أم خلق فريد من طينة أخرى!؟ أحاول القراءة استمتاعا بمجريات الأحداث ورغبة في النعاس، النعاس لا يأتي إلا إذا استشعرنا متعة ما، يأتي ليجعلها آخر عهدنا بالحياة. وأي متعة تتجاوز تلك التي يغرقك فيها كاتب بقلم جني، يحول خياله لجنة تسكنها وحدك، أو جحيم تحترق فيه وحدك. الليلة سأحاول قدر الإمكان إنهاء هذا الجزء، الرواية تحكي عن قصة يتخيلها الكاتب عن المسيح، يسوع وأمه مريم، والمجدلية التي أنقذها من حجر الراجمين. عن المحبة التي يحاول زرعها داخل قلوب لا تفقه، والأخوة التي يسعى لإحيائها في أمة تتناحر. أقبل فقرة لفرط إعجابي بها، قبلة عشق دافئة، وأغلق الكتاب. أريد أن تبقى الفقرة داخل جمجمتي لأطول مدة ممكنة. فيغلبني النعاس ويغلبني حلم غريب، عن طفل يلاحقني فأهرب، ثم يتوقف لأهرول أنا في اتجاهه ثم يختفي، رغبة بالأمومة توقظني فأجدني وقد نزع عني اللحاف وارتجفت أصابعي وبردت روحي. أتدثر جيدا وأقرأ شيئا من القرآن، لعلي أعود لنوم هانئ لا أطفال ولا أحلام فيه. أبقى على هذا الحال دقائق معدودة ثم تدوي صرخة مفزعة بجبروت الجبال، ترجني رجة ملك جاء بالوحي لنبي تائه. صوت رجل يصرخ، وامرأة. هل جاء والدا الطفل الذي زارني في حلمي ليستردا طفلهما، أم أن الحلم اختلط بالحقيقة وأنا الآن أهلوس.
متثاقلة، يقتلني النعاس ورغبة في البكاء لا أدري من أين أتت، لا أتوقف عندها كثيرا فقد صرت أحترم مزاجية الأنثى التي تحكمني، وأترك لها حرية تحديد شعورها، حزنا أو فرحا لسبب أو لغير سبب، ثم أهادنها حتى ترحل عني. أفتح الشباك، فيظهر أمامي رجلان وفتاة ومطر يغسل الشوارع والقلوب. أحدهما يحاول الوصول إلى الفتاة والآخر يحول بينها وبينه، يصرخ الأول كمن فقد وطنه وإرثه والقافلة التي تحمل أمه وأباه في عرض صحراء لا نهاية لأطرافها. صراخه يكسرني كبيضة دجاجة كانت تنوي التحول لديك محترم. باءت محاولاتها بالفشل على يد طفل متهور. كيف يصرخ إنسان بهذه الحرقة ثم لا ينزل ملك من السماء عليه يواسيه ويشق على قلبه لينتزع الألم!؟ أفهم من كلام امتزج بعويل ووعيد وأسف ورجاء وانكسار، أن الفتاة هي حبيبة الفتى المكتوي بنار العشق. وقد خانته. يهجم عليها كثور إسباني لا يكترث لطعنات غريمه، وما أن تلتقي نظراتهما حتى يتحول لهر اشتاق لصاحبه الغائب. يبتعد عنها ليزأر كأسد تفوق عليه غزال شارد فسبقه، ثم يعود مندفعا نحوها كقطار خرج عن سكته، أكاد أصرخ هلعا وخوفا من بطشه بها، لكنه ما يلبث أن يعود للهر الحزين الذي كان. تراقبه هي فيصمت، تتفادى النظر مباشرة إلى عينيه وتغرق في هاتفها دون رد. يبحث عنها فلا يجد سوى الهيكل، يسألها لم!؟ وكيف!؟ ومتى!؟ فلا تجيب. يتوعدها بأنه سيقتلها ويقتل العشيق الخائن. فلا ترد، يكتوي أمامها كشاة طرية فوق مشواة ساخنة ضخمة تنتظر ضيوفا خاصين. ويبحث عن شيء ليثير شفقتها عليه، يتوجه نحو سيارة محاولا دك زجاجها بيديه، فيمنعه صاحبه، وتنظر هي إليه بغضب. يعود إليها ويسألها إن كانت فعلا تريد التخلص منه، وبأنه على استعداد لارتكاب جريمة الآن وفورا ثم الغرق خلف القضبان لترتاح هي منه، أو أن يلقي بجثته المرتجفة من على صخور بحر العاصمة الثائر فيتلقفه حوت ضخم يعيده إلى رحم رحيم.
تنتهي الفرجة بقدوم شبان آخرين، يحملون صديقهم الهائج الملتاع داخل سيارة سوداء، ويمضون تاركين الفتاة وحدها كنعل انتهت صلاحيته، واهترأت حواشيه. تمضي إلى حالها كنملة شردت عن أخواتها.
أنتبه للمنبه، الساعة بلغت منتصف الليل، أشعر بسعادة خفيفة فالليل كان سخيا معي ولازال هناك متسع من الوقت لاحتضاني بين ذراعيه. وبغصة حارقة، أرثي حال الشاب المسكين، أتخيل جرحه فيفزع قلبي، أتأمل الحي الصامت الغارق في همومه ونومه. وأحاول التجرد من تحيزي الأنثوي، وفهم الألم الذكوري الذي لا يستوعبه قلبي الذي تحمل كثيرا حماقات الرجال، فما عاد يتعاطف مع دموع الرجال وانكسارهم. أسأل قلبي المفجوع، كيف تحولنا الخيانة لأشباح بئيسة، كيف يهدنا غدر الحبيب فنصير رفاتا حزينا لا وزن له ولا كبرياء. أحسد الشابة لوهلة من الزمن، أحسد عثورها على رجل بلغ به عشقها هذا الألم كله. ثم أشفق عليها، هي التي أهدرت حبا مجنونا كذاك، حب خرافي لا نسمع عنه سوى في روايات القرون البعيدة. أوبخ نفسي لجهلي بقصتهما وأحوالهما وما كان، وجرأتي في الحكم عليهما كقاض متسرع ما قرأ ملف المتهم، لكنه لم يتوان في رفع المطرقة والبت بالحكم المشدد. أضع رأسي على مخدتي وأحرص على تغطية جسمي جيدا باللحاف وتحصين روحي بالأذكار. وأغرق في نوم لطيف، أستيقظ منه باكرا وقد اختلطت عندي الحقيقة بالحلم، فلا أعلم هل ما رأيته كان واقعا قد حدث أم كوابيس ممتعة جاءت لتغريني بحمل القلم وخلق الجمل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى