شوف تشوف

الرئيسيةحوادثخاص

أحكم عليه قبضته ونحره لاستخراج كنز من ضريح وسط الدوار

كريم أمزيان
كانت منطقة إيموزار مرموشة بإقليم بولمان، الواقعة بين جبال الأطلس المتوسط، مسرحاً لواقعة تبعث على الاستغراب، حولت حياة سكان إحدى القرى إلى كابوس، بعدما لم يصدقوا أن واحداً من أبناء بلدتهم يتجرأ على فعل لم يصدقوه لحد الآن، إذ كثيراً ما سمعوا «سيناريوهات» شبيهة به، لكن في قصص الجدات، المصنوعة من وحي الخيال، والتي يحكينها لهم في كل ليلة، قبل النوم.. الفعل الذي أقدم عليه ابن إيموزار مرموشة تحول إلى قصة حقيقية، وأصبح يرويها الآباء للأبناء، لينقلها الأجداد إلى أحفادهم..
كل ساكنة دوار «أسوكا»، بجماعة «أيت تلمان» قيادة إيموزار مرموشة، في إقليم بولمان، يعرفون الشاب (ع.ج.أ.ب)، الذي رأى النور، بتاريخ 28 نونبر 1988، بأحد الدواوير في القرية وعلى صلة بوالده الحسين، الذي تربطهم به علاقة صداقة وثيقة، فهم ابن قبيلة واحدة، يتقاسمون الأرض والثقافة والهوية، وقبل ذلك الدم الذي يجري في عروقهم. فهم يعتقدون أنهم من أصل واحد، وبالضبط من «إمرموشن»، الذي شكلوا لهم موطناً في جبال الأطلس، بعيداً عن المستعمر، ومن هناك برزت أولى بوادر المقاومة المسلحة ضده. التاريخ المشترك جعلهم لا يفترقون عن بعض، على الرغم من تباعد مساكنهم ببضعة كيلومترات، إلا أن انشغالاتهم اليومية في المراعي والحقول كانت تجمعهم على الدوام، ولا تفرق بينهم تصاريف الحياة. الكل في المنطقة يجمع على دماثة أخلاق الشاب (ع.ج.أ.ب) وأبيه وأمه وكافة إخوته. فقد كان كبيرهم، فوض له أبوه مهمة الاهتمام بشؤون الماعز والخرفان، بعدما لاحظ معلموه في المدرسة الابتدائية، التي كان يقطع مسافة طويلة للوصول إليها، وهو يتابع دراسته فيها في أولى المستويات، أنه مختلف عن بقية زملائه وأقرانه، واتضح لهم بعد معاينة طويلة، أنه يعاني خللاً ما، غير أنهم لم يتمكنوا من تحديده، ما جعل بعضهم، خصوصاً أستاذين للتعليم الابتدائي، تناوبا على التدريس في المدرسة الابتدائية الفرعية، التي كان يتردد عليها (ع.ج.أ.ب)، بشكل متقطع، قبل أن يتوقف نهائياً عن الذهاب إليها في ما بعد، يتبعون خطواته، ويعاينون طريقة تواصله وتفكيره وردود فعله، بعدما استرعى انتباههم سهوه المتكرر في القسم، وعدم تركيزه كبقية التلاميذ الذين هم في سنه.

ملاحظات معلمين
لم يحتفظ المعلمان بملاحظاتهما لنفسيهما، بل شاركاها مع والدي (ع.ج.أ.ب)، الذي لم يصادفاه سوى في أحد أيام السوق الأسبوعي، الذي يقام في البلدة يومي الاثنين والثلاثاء، بالنظر إلى انشغالاته الدائمة مع قطيع ماشيته ومحصوله الزراعي وأشجار التفاح المثمرة التي تعرف بها المنطقة. أخبراه بأن ابنه ليس عادياً، وسألاه إن كان قد سجل بدوره الملاحظة ذاتها عليه، وإن كان يبدو لهم في البيت عادياً كباقي إخوته.
سكت الأب مطولاً، غير مستوعب للرسالة التي يود المعلمان تبليغها إليه، فاعتبر الموضوع عرَضياً ولا أهمية له، فأتبع حديثه معهما بقهقهة طويلة وغادرهما، من أجل العودة إلى رؤوس الماشية التي جلبها إلى السوق من أجل بيعها كعادته لاقتناء كل ما ستحتاجه الأسرة من مؤونة لمدة لا تقل عن نصف شهر.
فبالنسبة إليه ابنه (ع.ج.أ.ب)، الذي كان يبلغ حينئذ ثماني سنوات، مجرد طفل لم ينضج بعد، ولم يبلغ من الكبر ما يجعل سلوكه مشبوهاً أو يلفت الانتباه، فهو في رأيه «القلم مرفوع عليه»، والأطفال لا يحاسبون على سلوكاتهم، على الرغم من أن المعلمين سألاه: هل يعاني ابنه أي أعراض مرض؟ فنفى ذلك نفياً قاطعاً، مؤكداً لهما أن ابنه يركض كبقية الأطفال، ولا يعاني من أي مرض جسدي، في الوقت الذي كانا يقصدان مرضاً نفسياً أو عقلياً، إلا أنه تبين لهما أن الأب الفلاح المتواضع، رفض بلغته الأمازيغية، أن ينعت ابنه بـ«الأحمق» أو «المجنون».
لم يجد الأستاذان سوى أن استسمحا الأب الحسين، واعتذرا منه، وغادرا في هدوء، لاقتناء ما سيحتاجانه من السوق، قبل أن يعودا إلى الحجرة الدراسية التي يدرسان فيها نهاراً ويحولانها إلى مسكن في باقي الأوقات.

انزواء وشرود دائمان
مرت أيام طويلة بعد ذلك ثم أشهر وسنوات، كان خلالها (ع.ج.أ.ب)، يحضر إلى القسم أحياناً، ويغيب عنه في أحايين كثيرة، إلى أن انقطعت أخباره عن الأستاذين، بعدما استفادا من الحركة الانتقالية، وغادرا إيموزار مرموشة، باتجاه مدرسة ابتدائية أخرى، بعد أن ودعا الحجرة التي كانا يدرّسان ويعيشان فيها، في الوقت التي رحبت بمعلمين جديدين حديثي التخرج.
انقطعت أخبار التلميذ (ع.ج.أ.ب) عن أستاذي التعليم الابتدائي السابقين، فيما الجدد لم يلاحظا عنه أي شيء، لأنه لم يعد يحضر إلى القسم، بعدما انقطع عنه بشكل نهائي.
قرر الأب الحسين أن يفصل ابنه عن الدراسة، بعدما لاحظ أنه دائم الشرود وكثير الرسوب، خصوصاً أنه كلما كبر في السن إلا وبدأت بعض الأعراض التي لم يفهمها جيداً تظهر عليه. فكثيراً ما ينزوي لوحده بعد خروج كل زملائه من القسم، ثم يعود متأخراً إلى البيت بعدما يقضي كل الوقت يلهو لوحده في الأحراش، فيما في أيام أخرى يمضي الليالي خارج المنزل، دون أن يخاف أو يخشى أحداً رغم سنه المبكرة، فيظل الأب يبحث عنه رفقة رجال وأبناء الدوار، ليعثروا عليه بعد عملية بحث طويلة، جالساً في تل أو كهف، متسمراً غير واع بما يجري حوله.
استمر الحال على ما هو عليه، فظل الابن إلى جانب أبيه وأمه وإخوته، لا يغادر الدوار. يجلس في عتبة البيت أو يسير وراء والده وهو يرعى الغنم أو يقوم بمهامه الفلاحية في الحقول المجاورة للمسكن الذي يعيشون فيه. كانت الأم لا تبرح مكانها منذ علمت أن سوءا ما مس ابنها، فلم تترك «فقيها» أو ضريحاً إلا وزارته طالبة «بركة» أهله ليشفى ابنها، غير أن حالته بقيت كما هي ولم تتغير عن وضعها، فما وجدت أمامها إلا أن عملت على رعايته في داخل البيت، ومراقبته خارجه حتى لا يصاب بأي مكروه، أو يؤذي أحداً، فهو لا يعتدي على أحد، ولا يكلم سوى من حدثه، رغم أن بعض الأطفال يتحرشون به، ويقذفونه بالحجر، إلا أن إخوته كانوا دائماً يوفرون له الحماية اللازمة، خصوصاً أخوه زهير الذي ازداد في 26 يونيو 2002، حتى أصبح ذلك من رتابة حياتهم و”روتينها” اليومي.
كان أحد أئمة دوار، في ضواحي المكان الذي يقطنون فيه، قد أخبر أم (ع.ج.أ.ب)، أن ابنها مصاب بمس جن، من جنس أنثى سكنت جسده، ولن تغادره إلا إذا قدم لها قرباناً ذكراً قريباً إليه.. لم تهتم بالموضوع، إلى أن طاله النسيان.

ذبح في ضريح الدوار
في آخر أيام شهر يناير البارد من سنة 2011، اهتزت ساكنة منطقة إيموزار مرموشة على وقع خبر كان صادماً، بل مهولاً بالنسبة إليهم، لم يبلغ إلى مسامعهم مثله على الإطلاق. وهو الخبر الذي انتشر بسرعة كما تنتشر النار في الهشيم، وكان أول من تناهى الخبر إلى علمهم راع ولج ضريحاً مهجوراً، فخرج منه مهرولاً، بسبب الخوف والهلع الذي أصابه من شدة المشهد الذي رأته عيناه. فقد تفاجأ بالطفل زهير أخ (ع.ج.أ.ب) مذبوحاً من الوريد إلى الوريد، ممدداً في اتجاه القبلة، ودم كثير نزف منه، محولاً القبر الموجود داخل الضريح إلى بركة حمراء.
مضت ساعات قليلة على اكتشاف الجريمة، فحضرت عناصر الشرطة القضائية التابعة للمركز القضائي للدرك الملكي بمدينة ميسور، إلى عين المكان، بعدما تم إشعارها من عون للسلطة المحلية، فانتقلت على وجه السرعة إلى الدوار ومنه إلى الضريح حيث يوجد مسرح الجريمة، فعاينت جثة الضحية ممددة على الظهر، ووجهها ملطخ بالدماء، وتحمل جرحاً غائراً في العنق.
عملت عناصر من الفرقة التي حضرت، على القيام بعملية تمشيط لعين المكان، بعد معاينتها الجثة وإعطائها أوامرها، بتعليمات من الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف بفاس، من أجل نقل الجثة إلى مستشفى الغساني بالمدينة ذاتها، قصد إخضاعها لعملية تشريح لمعرفة أسباب الوفاة، قبل تسليمهما لأهلها لمباشرة إجراءات الدفن. وبعد ذلك مباشرة، شرعت عناصر الفرقة في الاستماع إلى كل من يمكنه أن يفيد بأي معلومات تقود إلى الجاني.
كان أول الذين استمعت إلى إفاداتهم (ح.أ.ي)، أب الضحية، الذي أكد وهو منهار وفي حالة نفسية سيئة، أنه لمح في يوم صادف يوم اثنين، ابنيه (ز.أ.ي) و(ع.ج.أ.ب) متوجهين إلى ضريح وسط الدوار، وبعد يومين من ذلك، أخبره سكان الحي أن ابنه الصغير مذبوح في الضريح، فأخبر «المقدم» الذي عمل بدوره على إخطار الدرك.
استمع رجال الدرك إلى عون سلطة يدعى (ح.أ)، والذي أكد أن الأب أشعره بأن ابنه الذي يعاني خللاً عقلياً، أصبح يتردد على الضريح، وتوجها إليه معاً، وطرقا عليه الباب، إلا أن ابنه (ع.ج.أ.ب) الذي كان بداخله بمعية أخيه الصغير، رفض أن يفتح لهما الباب، فطمأنهما بأنهما بخير بعدما سمعا صوتيهما وعادا أدراجهما، قبل أن يتفاجآ بجريمة القتل في الصباح الموالي.
سارعت الضابطة القضائية إلى البحث عن المتهم، الذي اتضح لها أنه لم يكن سوى (ع.ج.أ.ب)، فوجدته في منزل شخص يدعى (ح.إ)، كان قد اقتحمه وولجه، وفيه غير ملابسه التي كانت ملطخة بالدماء، ووضعها داخل إناء ماء ليغسلها من آثار الدم والبقع الحمراء التي كانت عالقة فيها، وهي الملابس التي عرضتها على والده، فتعرف عليها وأكد أنها تعود إليه، وأنه كان يرتديها قبل وقوع الجريمة، ليعود رجال الدرك من جديد، إلى الاستماع إلى صاحب البيت، للتأكد من أن لا صلة له بالموضوع، حتى لا يكون قد تستر عليه، بعد تنفيذه الجريمة، فأخبرهم أن شخصاً أعطاهم اسمه، كلفه بعمل في بيته، فأحكم إغلاق باب منزله قبل مغادرته تجاه العمل، قبل أن يجد لدى عودته (ع.ج.أ.ب) داخله.

خلل ذهني!
ورغم تأكيد ساكنة الدوار وأهله، أن المتهم مصاب بخلل عقلي، فإن عناصر الضابطة القضائية استمعت إليه تمهيدياً بأوامر من النيابة العامة، فأكد لها أن فقيه الدوار (ع.س) أشعره بوجود كنز داخل ضريح دوار «أسوكة»، فتوجه إليه بمعية أخيه، وأحكم إغلاق الباب، ثم عمل على إخراج محتويات حقيبة والده، التي كانت بداخلها وثائق شخصية. وخلال تفحصها، فوجئ به يطرق عليه الباب، بمعية «المقدم»، إلا أنه أقنعه بمغادرة المكان، بعدما هدده بالاعتداء عليه، في حال لم يغادر مطمئناً إياه على أخيه.
تصريحات المتهم (ع.ج.أ.ب) كانت مثيرة، فقد شرع في الاعتراف بكل ما اقترفه بكل سهولة وتلقائية، إذ أكد أنه بينما كان أخوه يستعد للنوم، قرر ذبحه لاستخراج الكنز بواسطة دمه، فاستل سكيناً كان يخبئها تحت ملابسه، فأيقظ شقيقه (ز.أ.ب)، وأسقطه أرضاً، ووضع رجله على بطنه، وبعدما أحكم قبضته عليه، ذبحه كما يفعل أباه للشاة في عيد الأضحى، فوضع يديه تحت عنقه، ودماء أخيه تسيل، فتوضأ بها، قبل أن يجد نفسه مصدوماً، وفق إفاداته، فقضى الليلة هناك مشدوها، قبل أن يغادر المكان في اليوم الموالي، واضعاً السكين تحت معطفه، ليتسلق بيتاً كان يتأكد من خلوه وفيه غير ملابسه ووضعها في إناء لتنظيفها.
كان على عناصر الشرطة القضائية أن تتحرك على الفور للاستماع إلى فقيه الدوار، بعدما ذكر المتهم أن ما جرى كان بإيعاز منه، غير أنه نفى كل ذلك، وأكد أن المتهم مختل عقلياً، وما صرح به لا أساس له من الصحة، وهو الأمر نفسه الذي أكدته (ر.ب) أيضاَ، خصوصاً أنه كسر لها عدداً من الأواني والتلفاز الذي يتوفرون عليه.

من إيموزار إلى ابن الحسن
بتاريخ 04 فبراير 2011، وجد المتهم (ع.ج.أ.ب) نفسه أمام قاضي التحقيق باستئنافية فاس، بعد إحالته عليه من قبل الوكيل العام للملك. وبعد مباشرته إجراءات التحقيق معه، أصدر في 11 فبراير من السنة ذاتها، أمراً قضائياً من أجل إجراء خبرة طبية نفسية على المتهم للتأكد من سلامة قواه العقلية. وبتاريخ 13 ماي من السنة ذاتها، وضعت الدكتورة حورية إيدومهايدي تقريرها بملف القضية، والذي خلصت فيه إلى أن المتهم يعاني مرض الانفصام المزمن، ليأمر قاضي التحقيق بعد ذلك بإحالة ملفه على غرفة الجنايات الابتدائية، تحت رقم 427/2610/2011، فعينت أولى جلساته في 08 يوليوز، وتأخر الملف تسع جلسات قبل أن تتم مناقشته والاستماع فيه إلى مرافعات الدفاع والنيابة العامة، قبل أن تصدر الهيأة القضائية بغرفة الجنايات الابتدائية بمحكمة الاستئناف بفاس، قرارها 710، مصرحة بأن المتهم كان وقت ارتكاب الفعل الجرمي، في حالة خلل عقلي، من الإدراك والإرادة وبانعدام مسؤوليته مطلقا، وبالحكم بإعفائه وإيداعه مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية، مع بقاء الأمر بالاعتقال ساريا عليه إلى أن يودع فعلا تلك المؤسسة، وهو الحكم الذي جرى تنفيذه بوضع المتهم في مستشفى ابن الحسن للأمراض العقلية والنفسية بفاس، والذي مازال يوجد فيه يتلقى العلاج ويتناول الأدوية، بعد صدور الحكم الاستئنافي في حقه في 11 يناير 2013، بتأييد القرار الابتدائي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى