أحداث 68 بفرنسا..مغاربة عاشوا أحداث ماي قبل نصف قرن وهكذا انتقم الثوار من الاستعمار
الأخبار
«في ماي من سنة 1968 اشتعلت الشرارة في الأوساط الطلابية، احتجاجا على الحكومة الفرنسية وعلى سياستها الاجتماعية. بعض الأوساط وقتها روجت في الإعلام الفرنسي أن الأمر لا يعدو أن يكون «زوبعة في فنجان» ونوعا من أنواع الرفض للجو العام الفرنسي، خصوصا أن اليمين واليسار كانا مختلفين أكثر من أي وقت مضى حول الطريقة المثلى لتدبير الأزمات الاقتصادية والسياسية للدولة.
بدأ كل شيء إذن عندما شرع الطلبة في الاحتجاج. كانوا وقود الشبيبة، التي تترجم الشغب الذي لم يكن مسموحا به للمعارضة. ولاحقا قيل إن جيل هؤلاء الطلبة هم الذين أعلنوا صراحة وفاة فرنسا، وميلاد الجمهورية الأخرى.
الذين نزلوا إلى الشارع اتهمتهم رئاسة الجمهورية بالوقاحة، لأن الاحتجاج كان مبدئيا ضد المواقف اليمينية للجمهورية الفرنسية، وتركيز الموقف الرسمي الفرنسي على مراقبة الحريات، خصوصا منها التي تتعلق بالسياسة العسكرية الفرنسية، في نهاية الستينات، والتي نتجت عنها خسارة مستعمرات أهمها الجزائر، وبالتالي تبخر وعود حكومية للفرنسيين بتشجيعهم على الاستثمار في مستعمرات فرنسا في الخارج».
+++++++++++++++++++++++++++++++++
هل يحتاج الفرنسيون إلى من يدرسهم تاريخهم؟
عندما أصبح جاك شيراك رئيسا لفرنسا، كانت الوشوشات في الصالونات تجهر بأن صديق المغرب سوف يعمل على تطبيق سياسته الخاصة، وليس ما يريده منه الناخبون. لذلك عندما انتهت ولايته الطويلة جدا، حسب الفرنسيين، اقتيد إلى المساءلة بشأن تمويل حملته الانتخابية، وأيضا بخصوص عدد من سياساته عندما كان في منصب رئيس الجمهورية، لكن شيراك خرج منها سالما.
ربما يكمن السر في نشأته في ظل الرئيس بومبيدو، الذي كان رئيسا للوزراء قبل أن يصبح رئيسا لفرنسا. وأيضا بصفته واحدا من كبار المسؤولين الفرنسيين، الذين كانوا في مواقع المسؤولية عند اندلاع أحداث ماي 1968، التي انطلقت كتظاهرات طلابية وعمالية، ثم شملت باقي فئات الشعب وناصرها المثقفون والسياسيون الفرنسيون، الذين وُلدوا في ظلها ووعدوا الفرنسيين بالدفاع عن مبادئها إن هم أوصلوهم عبر الصناديق لمعاقبة رموز الجمهورية العتيقة، التي دفنها الفرنسيون بمجرد ما عادوا إلى منازلهم ولو من بعد إحراق سيارات كثيرة ومحلات ومنشآت أكثر. واعتقالات أكبر في صفوف قياديي المظاهرات.
تاريخ فرنسا عموما حافل بالأحداث المشابهة، ولا حاجة هنا إلى العودة إلى كل المحطات التي اشتعلت فيها فرنسا، بل ووضعت في أبرزها حدا لحكم لويس الرابع عشر، إلى أن أنهت علاقتها تماما بعائلته وبدأت الجمهورية بمبادئها الثلاثة التي دُرست في الجامعات. كانت فرنسا تحتاج في كل قرن أو نصفه على الأقل إلى زلزال سياسي ينطلق من الشارع، لتغيير أمور تتعلق بعلاقة الشعب بالدولة. أحداث ماي 1968 كانت انقلابا على توجهات الدولة، والسياق الدولي الذي كانت تمر منه. واليوم بعد نصف قرن ها هي فرنسا تشتعل من جديد في وجه رئيس شاب، ربما لا تتوفر له اليوم الحظوة نفسها التي توفرت لسابقيه ممن مروا بزوابع مشابهة.
الشارع الفرنسي لا يرحم أحدا من سمان قصر الإليزي. هذا هو الدرس التاريخي الذي استوعبه الفرنسيون جيدا على ما يبدو.
حتى أن المتتبعين استساغوا سخرية الفرنسيين من شخصية رئيسهم، وخوضهم في حياته الخاصة وفارق السن الكبير بينه وبين زوجته، خصوصا المتقاعدين الذين سخروا من سياسته، عبر السخرية من زوجته.
سياسة ماكرون الآن لا يمكن فصلها عن السياق الدولي، والدليل رحلاته الأخيرة إلى أكثر من دولة إفريقية، واستقباله في وقت سابق من هذه السنة لمواطن إفريقي يقيم في فرنسا بطريقة غير قانونية. الاستقبال كما يعلم الجميع جاء بعد إنقاذ هذا «الحرّاك» لحياة طفل فرنسي كاد يسقط من علو مرتفع بإحدى البنايات السكنية.
المعارضة سخرت من ماكرون ووصفته بالاستغلالي، وتساءلت عن عدد الأبطال الآخرين الذين يقومون يوميا فوق التراب الفرنسي بأعمال بطولية ولم يستقبلهم أحد.
كان ماكرون طيلة الأشهر السابقة يستقبل سيلا من الانتقادات، وها هي فرنسا اشتعلت بطريقة أعادت إلى الأذهان أحداث ماي 1968 والتي كانت كما سنرى، درسا من الدروس العميقة للتاريخ.
عندما تحرق فرنسا شوارعها لتقول «لا»
لن نُعدم أوجها مثيرة للشبه بين ما يقع في فرنسا هذه الأيام، وبين ما وقع في ماي 1968. ربما يكون الفرق كما علق بعض الظرفاء، هو جون بول سارتر وميشيل فوكو وآخرون مقارنة مع «تويتر» و«فايسبوك» وأصحاب «الجيليات» الصُّفر هذه الأيام.
ففي سنة 1968 كان توزيع المنشورات يؤدي إلى الاعتقال. ولو أن الذين تم اعتقالهم تمت التعامل معهم بكثير من الكياسة، حتى لا تتهم الدولة لاحقا بانتهاك حقوق الإنسان. ورغم ذلك فإن الكثيرين اشتكوا دوافع اعتقالهم، التي اعتبروها تضييقا على حريتهم. أما القوات الأمنية فقد كانت ذريعتها الرسمية، هي احتواء الشغب واعتقال المتسببين في إضرام النيران في السيارات. وهذا ما يقع اليوم أيضا في فرنسا وينقله التلفاز بالألوان.
وربما تكون هذه الألوان هي الفرق الأكبر بين دوافع الأمس واليوم، ما دام مثقفو فرنسا وممثلو المعارضة يعتبرون أن الوقت قد حان تماما لإعادة رسم معالم سياسات الدولة، سيما في الجانب الاجتماعي والاقتصادي.
ولعل من الطريف أن يعلق رئيس الحكومة المغربي، سعد الدين العثماني، ويُنسب له أن رئيس الوزراء الفرنسي أخبره بأن المغرب أفضل من فرنسا.. أسابيع قليلة قبل اشتعال الأحداث في قلب باريس.
بعض التحليلات تتجه إلى القول بأن ماكرون ليس إلا ضحية احتقان يتنامى منذ عهد جاك شيراك، وازداد تأزما مع ساركوزي الذي لاحقته تهمة تلقي أموال من نظام القذافي لتمويل حملته الانتخابية، وهو الأمر الذي لم يفوته مثقفو فرنسا للنيل منه سياسيا. أما هولاند فقد تحول إلى مسخرة، عندما تناولت الصحافة حياته الخاصة لضربه سياسيا، عندما نشرت صور له وهو يتنكر بخوذة دراجة نارية للصعود إلى شقة واحدة من مشاهير الموضة والإعلام في فرنسا، وتكتب رفيقة دربه أسابيع فقط بعد الخيانة عن مأساتها مع رئيس الجمهورية الفرنسية، وكيف أنه تنكر لعلاقة الحب التي جمعته بها لسنوات طويلة. قصة كانت كافية للنيل من أسهمه سياسيا، والبقية تعرفونها بالتأكيد.
الأمر نفسه حدث قبل نصف قرن، رغم اختلاف التفاصيل. إلا أن المبدأ واحد في الحقيقة وتحركات الأزمات الاقتصادية والاجتماعية فوق رقعة السياسة تؤدي دائما وباستمرار إلى ما أدت إليه.
اختلف الفرنسيون في ما بينهم، أثناء نقلهم لتفاصيل ثورتهم قبل نصف قرن، وكيف أنهم من خلالها أعادوا رسم ملامح فرنسا من جديد. لسنا هنا بصدد إعادة سرد الوقائع، بقدر ما يهمنا نقل بعض الانطباعات والتحليلات، التي تناولت قصة نزول فرنسا إلى الشارع وإيقاف الحياة لإعادة ضخها من جديد. كيف تأثر المغاربة بما وقع في فرنسا؟ وكيف كان الفرنسيون العائدون إلى بلادهم من المغرب بعد سنة 1956 طرفا قويا في المعادلة؟
الجواب عن كل هذه الأسئلة يقتضي أولا تأمل الأحداث بهدوء، لأن الفرنسيين كانوا دائما يُفضلون خلق العاصفة، ثم التفكير بعد ذلك.
+++++++++++++++++++++++++++++++++++++
نصف قرن على أحداث ماي.. عندما قال الطلبة الفرنسيون كلمتهم
من قال إن التركيبة السياسية الفرنسية مفهومة ومبسطة؟
حتى أن هناك من يقول إننا ورثنا عنها التعقيدات السياسية نفسها. لغة الخشب عندنا في المغرب ليست في النهاية إلا ترجمة للغة الخشب، التي صنعت أمجاد سياسيين وعسكريين فرنسيين، احتج الشارع الفرنسي ضدهم في أكثر من مناسبة.
في ماي من سنة 1968 اشتعلت الشرارة في الأوساط الطلابية، احتجاجا على الحكومة الفرنسية وعلى سياستها الاجتماعية. بعض الأوساط وقتها روجت في الإعلام الفرنسي أن الأمر لا يعدو أن يكون «زوبعة في فنجان»، ونوعا من أنواع الرفض للجو العام الفرنسي، خصوصا أن اليمين واليسار كانا مختلفين أكثر من أي وقت مضى حول الطريقة المثلى لتدبير الأزمات الاقتصادية والسياسية للدولة.
بدأ كل شيء إذن عندما شرع الطلبة في الاحتجاج. كانوا وقود الشبيبة، التي تترجم الشغب الذي لم يكن مسموحا به للمعارضة. ولاحقا قيل إن جيل هؤلاء الطلبة هم الذين أعلنوا صراحة وفاة فرنسا، وميلاد الجمهورية الأخرى.
الذين نزلوا إلى الشارع اتهمتهم رئاسة الجمهورية بالوقاحة، لأن الاحتجاج كان مبدئيا ضد المواقف اليمينية للجمهورية الفرنسية، وتركيز الموقف الرسمي الفرنسي على مراقبة الحريات، خصوصا منها التي تتعلق بالسياسة العسكرية الفرنسية في نهاية الستينات، والتي نتجت عنها خسارة مستعمرات أهمها الجزائر، وبالتالي تبخر وعود حكومية للفرنسيين بتشجيعهم على الاستثمار في مستعمرات فرنسا في الخارج. كما أن العائدين إلى فرنسا كانوا قنبلة موقوتة حقيقية، لأنهم خسروا ممتلكاتهم، سيما في المغرب. فقد عاد من شمال إفريقيا وحدها مليونا فرنسي، كانوا كلهم يتوفرون على عقارات ومشاريع في المغرب. ليجدوا أنفسهم مُتخلى عنهم داخل بلدهم الأم، بالإضافة إلى المماطلة الحكومية في التعامل مع قضيتهم.
كان الدستور الفرنسي الذي أقبر بعد أحداث 1968، ينص على حماية عدد من السياسات اليمينية المحافظة للدولة، في وقت كان فيه اليسار الفرنسي يتقوى جماهريا، خصوصا في الجامعات. وهناك تأثر الطلبة المغاربة بأفكار اليسار الفرنسي، منذ الخمسينات، وكانت النتيجة انشقاق المتأثرين بأفكار اليسار عن حزب الاستقلال، الذي كان يقوده المحافظون المغاربة.
لنعود إلى فرنسا. كانت الأفكار الشيوعية منتشرة في الأوساط النقابية الفرنسية، وهذا الأمر لوحده جعل أحداث ماي قبل خمسين سنة من اليوم، تشكل منعرجا حقيقيا في الاقتصاد الفرنسي.
عنف كبير اشتعلت نيرانه في الشوارع وتعاطفت مع الأحداث المذكورة الفئات الشعبية الفرنسية، ليكتب الشبان الفرنسيون حروف أبرز منعطف تاريخي للجمهورية، خلال القرن الماضي.
لقد كانت أحداث ماي 1968 أكبر من احتجاجات تخللتها أعمال عنف. مؤرخون فرنسيون صنفوها على أنها ثورة متكاملة الأركان قال فيها الطلبة الفرنسيون أولا كلمتهم، وصنعت فيها باريس ملامح الحياة الفرنسية لما بعد الثورة. فقد تأثر الاقتصاد الفرنسي كثيرا وأعيدت برمجة عدد من المخططات، وضرب زلزال كبير أركان الجمهورية، التي وضعها الرئيس الفرنسي الأسبق «دوغول». وهو الأمر الذي أعاد صياغة مواقف الفرنسيين من الحريات والحركات النسائية عبر العالم، بالإضافة إلى ثورة على مستوى الأدب. لقد كان الأمر أكبر من أن تحتويه الحدود، التي رسمها المتحكمون السابقون في المشهد.
الرئيس «دوغول» خبط الطاولة في وجه المتظاهرين!
كان الرئيس الفرنسي «دوغول» الذي كان الفرنسيون في الجزائر يرددون اسمه في التحايا التي يتبادلونها بينهم في الشوارع كنوع من أنواع المزاح، ليتقلب في قبره وهو يشاهد أعمال العنف التي انتشرت في فرنسا، خلال هذه الأيام. بعد خمسين سنة على أحداث ماي 1968. نصف قرن لكي يعلن الفرنسيون عن حنينهم إلى قلب المنظومة الاقتصادية من جديد، ما دامت قرارات رئاسة الجمهورية لا تخدم مصالح الشارع الفرنسي.
الرئيس الحالي ماكرون كان صعوده إلى رئاسة الجمهورية عقابا ضمنيا لليمين الفرنسي ولليسار أيضا. فقد أمضى الفرنسيون العقدين الأخيرين وهم يستشيطون غضبا ضد رئاسة الجمهورية، خصوصا أن الاقتصاد الفرنسي كان يتذبذب في محطات كان خلالها الفرنسيون يعولون على بلادهم لامتصاص الأزمة، التي تتربص بهم داخل بلد بدأ مبكرا في أداء ضريبة قرون من استعمار بلدان الآخرين. ليحل هؤلاء الآخرون في فرنسا بصفة دائمة هربا من بلدانهم، التي حولها الاستعمار الفرنسي إلى بلدان منهوبة وتابعة للإدارة الفرنسية.
كانت الموجة الاستعمارية مزدهرة جدا أيام الجنرال دوغول. فهذا الأخير كان يكرس لدى الفرنسيين أن الجيش يتوسع في دول أخرى، لكي يعيش الفرنسيون جيدا. لكن تداعي أنظمة كثيرة في العالم مع اقتراب نهاية الستينات وحصول دول أخرى على استقلالها رسميا من فرنسا وعودة ملايين الفرنسيين إلى بلدهم الأصلي، كلها أمور جعلت «صنم» الدوغوليين الفرنسيين يتأرجح إلى أن تهشم.
اليسار الفرنسي استغل الأمر جيدا. وحتى الذين كانوا ينتقدون اليسار ولا يؤمنون باليمين كانوا يناصرون السياسيين، الذين حاولوا الابتعاد عن الخوذة العسكرية التي كانت ترسم معالم الاقتصاد الفرنسي، بناء على الرؤية العسكرية للدولة.
ومنذ خمسينات القرن الماضي كان الفرنسيون يحتجون ضد بلادهم، لأنها جلبت يدا عاملة من المغرب والجزائر وتونس ودول جنوب الصحراء، ليشتغلوا في قطاعات البناء والبنيات التحتية وصناعة السيارات والمناجم. وكلها قطاعات أعادت بناء فرنسا، ما بعد الحرب العالمية الثانية. هؤلاء العمال الأجانب كانوا لا يخضعون لأي تيار نقابي فرنسي، وهو ما جعلهم بعيدين تماما عن أي توظيف سياسي لإرباك الحكومة. وربما الجيل الثاني لهؤلاء العمال تعرف على الأفكار النقابية، ومنهم من انخرط ليناصر الشيوعيين النقابيين في أفكارهم المناهضة لهيمنة أثرياء فرنسا على الاقتصاد، وخِدمة القوانين لمصالحهم على حساب الطبقة العاملة.
هذا الوعي انطلق من الجامعات أساسا، لذلك كانت أحداث سنة 1968 غير مطمئنة للدولة الفرنسية، خصوصا أن رئاسة الجمهورية كانت تتوصل بالتقارير الأمنية أولا بأول وعلمت مسبقا من خلال استطلاعات الرأي، أن الشارع الفرنسي لم يعد «يحب» الرئيس كثيرا. وبدل عقاب الصناديق اختار المتظاهرون معاقبة المنظومة، التي تُكون آلية صناعة مشاريع القوانين.
كان أكبر غلط ارتكبته رئاسة الجمهورية، هو اعتقال المفكر الشهير جون بول سارتر، عندما كان يوزع منشورات تحمل أفكارا ثورية. فقد كان اعتقال الرجل الشهير في أوربا وفي جامعات العالم، بمثابة الزيت التي صُبت على النار. لقد كانت أسماء أخرى مثل الفيلسوف ميشيل فوكو ولائحة طويلة من أسماء الأدباء والمفكرين الفرنسيين. وهو الأمر الذي أحرج دوغولورئيس وزرائه، الذي كان وقتها هو بومبيدو (كان رئيسا لفرنسا أيضا، وهو الذي صقل اسم جاك شيراك في وقت لاحق).
كانت شعبية الدولة في الحضيض، سيما بعد أن انضم العقلاء إلى الطلبة الذين اتهمتهم الدولة في السابق بالطيش وعدم النضج. وقتها قال المفكرون وحملة أفكار المعارضة إنهم كانوا يدقون الناقوس في كتاباتهم، منذ نهاية الخمسينات، والآن زلزله الطلبة والعمال!
إدريس البصري كان متخوفا من «مغاربة» أحداث 1968 بفرنسا
في السنة التي أصبح فيها إدريس البصري وزيرا للداخلية، والعالم يودع سبعينات القرن الماضي، أراد موظفو ديوانه الجدد أن يمازحوه، فحذروه من أن تشتعل في المغرب احتجاجات من قبيل تلك التي عاشتها فرنسا، في ماي 1968. فقد كان المقربون من الوزير يعلمون جيدا أنه كان يكنّ كرها كبيرا لطبقة طلبة اليسار القدامى، الذين درسوا في فرنسا وعاش بعضهم تلك الأحداث عن قرب، وربما يفكرون في إحياء النسخة المغربية منها، عندما أصبح هو وزيرا للداخلية.
فكان جواب إدريس البصري صاعقا: «لقد جربت كل شيء، ولن تخيفني حفنة من مُحبي فرنسا..». والحقيقة أن إدريس البصري كان دائما متخوفا من الذين تفوقوا عليه في مسارهم الدراسي، خصوصا الذين ينتمون إلى جيله. فعندما كان هو يبدأ مساره كشاب متواضع جدا، في سلك البوليس والاستعلامات العامة بالرباط، كان أغلبهم قد شارفوا على ختام مسارهم الجامعي ومناقشة أطروحاتهم لنيل الدكتوراه في الحقوق والآداب، على الخصوص.
بعض المناضلين اليساريين، ومنهم من أصبحوا وزراء في حكومة التناوب، كانوا يعيشون في فرنسا عندما اندلعت تلك الأحداث في ماي 1968، وواكبوا عن قرب كيف تطورت الأحداث لتصبح دموية وتُحفر في ذاكرة الفرنسيين. ملايين الفرنكات من الخسائر في المنشآت وممتلكات الدولة، وحتى المواطنين. بالإضافة إلى موجة الاعتقالات، التي طالت مدبري الأعمال التي وصفتها فرنسا الرسمية وقتها بالتخريبية. حتى أن موظفي الأمن العام، كانوا يتوعدون المشاركين في عمليات التخريب بأقسى العقوبات القضائية، ما دام الأمر يتعلق بشل الاقتصاد احتجاجا على سياسة الدولة.
ومن أطرف ما رُوي عن الطلبة المغاربة الذين كانوا يتفرجون على الأحداث، أن أحد طلبة شعبة الإدارة، وهو تخصص جامعي وقتها كان خريجوه يتوجهون إلى الإدارة العمومية ووزارة الداخلية لشغل مناصب تتعلق بالتسيير، كان شاهدا على اندلاع المواجهات بين طلبة الحي الجامعي، حيث كان فريق من الطلبة المغاربة، وبين اتحاد الطلبة الفرنسيين. وكان هذا الموظف الذي اشتغل إلى جانب إدريس البصري لأزيد من عشرين سنة شارك في عملية رشق قوات الأمن بالقنينات والعصي، وعاد متحمسا إلى الحي الجامعي، حيث كان أغلب الطلبة المغاربة يراقبون الأحداث من بعيد. وكان مزهوا وهو يحكي عن «شغبه» وتجربة رشقه للأمن، رغم أنه أمضى أياما مختبئا في غرفته لا يغادرها نهائيا، لأن الطلبة أوهموه بإمكانية ورود اسمه ضمن لائحة المبحوث عنهم.
لم تتوقف الطرفة هنا، فصاحبنا عندما اشتغل إلى جانب إدريس البصري خلال الثمانينات، ذكره بعض أعضاء حزب الاتحاد الاشتراكي بماضيه النضالي، عندما كان طالبا معهم، خلال سنة 1968، لكنه تنكر في الأخير للجميع. إذ أثيرت القصة لاستفزازه في أحد اللقاءات التي جمعت بين برلمانيين وديوان إدريس البصري، لمحاولة إيجاد حل لمشكل رجال التعليم الاتحاديين الذين أوقفوا في سلك الوظيفة العمومية، للاشتباه بتورطهم في تأجيج المظاهرات التلاميذية في مطلع الثمانينات، وبالضبط بمدينة الدار البيضاء.
لم يتقبل إدريس البصري نفسه أن تربط المعارضة المغربية بين أحداث ماي 1968 في فرنسا، وبين الاحتجاجات التي عرفتها أكثر من مدينة مغربية بسبب الأزمات الاقتصادية والسياسية. كانت أصابع الاتهام دائما تشير إلى البصري، وتتهمه بهندسة تزوير الانتخابات، منذ السبعينات إلى آخر أيامه بالوزارة تقريبا، بالإضافة إلى أن العقلية الأمنية لرجل الداخلية ظلت ترافقه ليرفض كل «ما من شأنه» أن يحول الشارع إلى وسيلة احتجاج. ولعل موقفه هذا تشكل في البداية من أحداث ماي الفرنسية، والتي تابعها كرجل أمن، قبل أن يدخل «محراب» الوزارة.
الاستعماريون العائدون والرغبة في تمريغ وجه سياسيي فرنسا في الوحل!
من بين الجوانب الخفية التي ساهمت في تأجيج الغضب ضد الحكومة الفرنسبة في ماي 1968، الغضب غير المعلن ضد الدولة من طرف فرنسيي المستعمرات. فرنسيون عاشوا سنوات من حياتهم خارج فرنسا وأنجبوا جيلا من الفرنسيين، كان من بينهم جاك شيراك نفسه، رغم أنه عاد مبكرا من المغرب، وأصبحوا ينظرون إلى بلادهم بعد عودتهم النهائية إليها، كما لو أنها طعنتهم في ظهورهم.
ازدادت الأمور تعقيدا عندما بدأت فرنسا تعتنق أفكارا تحررية لاءمت كثيرا وضعية دول العالم الثالث، خصوصا بعد اختفاء المهدي بن بركة فوق التراب الفرنسي. إذ أصبح التيار الثالث في فرنسا وحتى رموز اليسار، يُحرجون كثيرا من هذا الأمر. بالإضافة إلى الإقصاء الذي تعرض له سياسيون ومثقفون فرنسيون لم يترددوا في إعلان تعاطفهم مع الجزائر في بداية الستينات، بعد أن مشى عليها قرن تحت رحمة الاستعمار الفرنسي.
كانت الجمهورية الفرنسية تنظر بحسرة إلى الأفكار التي بنت عليها مجدها لقرن أو يزيد وهو يرتطم بصخرة الأفكار الجديدة، التي كان محركها هم الشباب الفرنسي بتزكية من الجيل الغاضب من المثقفين. انضاف إلى هذا كله السخط الكبير على رداءة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وما يتعلق أيضا بمسألة الحريات داخل فرنسا.
لذلك كان العائدون من المستعمرات أكثر غضبا ضد الدولة، سيما وهم يرون كيف أن الرئيس دوغول لم يكن يملك الشجاعة الكافية للدفاع عن أفكاره، خصوصا عندما خرج مفكرون فرنسيون يتهمونه بالاسم، بتغذية خطاب عنصري يقوم على إقصاء الجميع في سبيل الانتصار للطبقة التي يمثلها دوغول أو يخدم مصالحها على الأصح.
كانت المحاكم الإدارية الفرنسية تعج وقت ثورة ماي بآلاف القضايا التي رفعها مواطنون فرنسيون إلى أنظار القضاء ليبت فيها، والتي تتعلق بممتلكاتهم خارج فرنسا. هناك من خسر ملايين الفرنكات ولم تقدم له فرنسا أي ضمانات، رغم أنها شجعت على الاستثمار في المستعمرات في وقت سابق، لتعترف في الخمسينات ونهاية الستينات باستقلال جل الدول التي كانت تستعمرها لقرون خلت.
كانت بوادر الثورة تتولد من ذلك الوقت. صحيح أن المحرك الأكبر للثورة وأعمال الشغب كانوا هم الطلبة وأصحاب المطالب الاجتماعية من العمال والكادحين والموظفين الصغار، لكن انضمام ملايين الغاضبين ممن عادوا إلى فرنسا بشكل نهائي، بعدما تخلت فرنسا عن سياستها الاستعمارية والتي أثقلت كاهل الدولة، كان بلا شك نقطة قوة جعلت أحداث ماي 1968 تدخل التاريخ من أوسع أبوابه. حتى أن مظاهرات سابقة في فترة رئاسة ساركوزي، أعادت إلى الأذهان أحداث ماي، لمجرد أن المواطنين رفضوا زيادة حكومية في أسعار الحليب. كان هذا قبل حوالي عشر سنوات. أما اليوم فإن الفرنسيين يريدون معاقبة الرئيس ماكرون، الذي كان اختيارهم المعتدل ما بين اليمين واليسار على تردي الأوضاع الاجتماعية للفرنسيين، وعدم تقبلهم للسياسة الجديدة في تدبير المعاشات والتعويضات الاجتماعية وحتى أسعار المحروقات.
لا يزال المؤرخون إلى اليوم يتساءلون عن سر نجاح ثورة ماي، قبل نصف قرن. وعن حجم الشغب ونيران الغضب التي اندلعت في قلب شوارع واحدة من أقوى الاقتصادات في العالم. ربما يكون الجواب مرتبطا ولو بشكل نسبي، بقصة الطالب المغربي الذي شارك في رشق قوات الأمن، أثناء اندلاع المواجهات، ولم يكن وقتها سوى طالب بسيط في الحي الجامعي. ولا شك أن الكثيرين غيره من جنسيات أخرى إفريقية وآسيوية تحمسوا لعقاب فرنسا، رغم أنهم لم يكونوا فرنسيين.