أبو الطب.. هيبوكراتيس (أبقراط)
بقلم: خالص جلبي
هناك من يخلط بين (أبقراط) و(جالينوس)، والثاني ولد بعد الأول بخمسة قرون، وأبقراط يعني باللغة اليونانية ماسك الخيل، وعاش أبقراط في القرن الخامس قبل الميلاد (460 ـ 380 ق. م)، أما جالينوس فقد عاش في القرن الثاني بعد الميلاد (129 ـ 199 م).
ويتحدث (ابن أبي أصيبعة) الدمشقي في كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» عن أبقراط فيغطيه في 19 صفحة، وما تعلمناه في الطب عن قسم أبقراط ليس هو من وضعه، بل تلامذته، وقسم من صيغته هي «بأني لن أعطي عقارا مميتا لأي إنسان إذا سألني إياه، وكذلك لن أعطي لامرأة دواء مجهضا. وسوف أحافظ على حياتي وفني بطهارتي وتقواي، وأيا كانت البيوت التي قد أزورها، فإنني سأدخل لنفع المريض، على أن أظل بعيدا عن جميع أعمال الظلم المتعمد، وجميع الإساءات وبخاصة العلاقات الجنسية، سواء مع الإناث أو مع الذكور، أحرارا كانوا أو عبيدا. وسوف أظل حريصا على منع نفسي عن الكلام في الأمور المخجلة، التي قد أراها أو أسمعها أثناء فترة المعالجة وحتى بعيدا عن المعالجة في ما يتعلق بحياة الناس، والتي لا يجوز لأحد أن ينشرها. فإذا ما وفيت بهذا القسم، يحق لي حينئذ أن أهنأ بالحياة وبالفن الذي شَرُفت بالاشتهار به بين جميع الناس؛ وإذا ما خالفت القسم وأقسمت كاذبا، فيجب أن يكون عكس هذا نصيبي وجزائي».
وتنسب إليه مجموعة من الكتب بلغت ستين كتابا، ويذكر ابن أبي أصيبعة حوالي ثلاثين منها مثل: «كتاب الأجنة» و«أوجاع النساء» و«الأمراض الحادة» و«قوانين في نفس الطبيب» و«طبيعة الإنسان» و«الغذاء» و«حانوت الطبيب» وكتاب «الكسر والجبر» و«ناموس الطب» و«الوصية»، واحتفظ لنفسه بكتاب يذكر فيه خمسا وعشرين علامة دالة على الموت.
ومما يبدو من سيرته أنه عاصر سقراط ونقل عنه أفلاطون، فسقراط أعدم عام 399 قبل الميلاد حينما كان أبقراط في عمر 41 سنة. عاش الرجل في مدينة كوس، وطاف وتعلم، ثم استقر في مدينة لاريسا، وهي مدينة أثرية اليوم في جزيرة تركية ليس فيها إلا الأطلال، فسبحان الباقي الحي.
واعتبر (أبقراط) أن هناك وحدة بين الطبيعة والإنسان، فيجب النظر إلى كل عناصر مسببات المرض، من تغير المناخ وطبيعة الجغرافيا والفلك، وهي أمور صحيحة، فالأنفلونزا وخثرات الأوعية الدموية تشتد في البرد، وضخامة الغدة الدرقية تنمو في المناطق التي تفتقر إلى عنصر اليود في الطعام. وكان يرى أن الطبيب فيلسوف وبالعكس فهو يتعامل مع الكون الأصغر، وأبقراط هو من طور فكرة المشفى السريري، وأهم ما فعله أنه أرسى قواعد الطب المنهجي وآليات حدوث المرض بطريقة تجريبية، حتى جاء جالينوس فأعاق تقدمه بإيديولوجية سيطرت على السوق الطبية ألفي عام، حتى كسرها الطب الحديث.
ومما ينقل عنه قوله: «إن الطب أشرف الصنائع كلها»، و«ينبغي لمن أراد تعلم الطب أن يكون ذا طبيعة جيدة وحرص شديد ورغبة تامة»، و«ينبغي على الطبيب أن يكون مشاركا للعليل، مشفقا عليه، حافظا للأسرار»، و«ينبغي أن يكون محتملا للشتيمة» وهي قضية ذكرها القرآن «ليس على المريض حرج».
ويصف أبقراط لباس الطبيب أن تكون: «ثيابه بيضاء نقية لينة»، وينقل (ابن جلجل) من أخلاقه السمحة أن (أفليمون) كان يدعي الفراسة من رؤية صورة المرء، فلما عرضوا عليه صورة أبقراط قال: «هذا رجل يحب الزنا»، قيل له: «يا معلم، ولكن هذا أبقراط». ولم يكن اجتمع به قال: «إني شديد الفراسة فانقلوا له كلامي»، فلما وصله قال: «صدق أفليمون فأنا رجل أحب الزنا، ولكني أملك نفسي».
ومن حكمه التي قالها: «إنما نأكل لنعيش ولا نعيش لنأكل»، و«الأمن مع الفقر خير من الغنى مع الخوف» و«العلم كثير والعمر قصير، فخذ من العلم ما يبلغك قليله إلى كثير».
ووصفه (المبشر بن فاتك) في كتابه «مختار الحكم ومحاسن الكلم» بأنه كان «ربعة القامة، أبيض اللون، حسن الصورة، عظيم الهامة، بطيء الحركة، إذا التفت التفت بكليته، كثير الإطراق، متأنيا في كلامه، يكرره على سامعه، كثير الصوم، قليل الأكل، بيده دوما إما مبضع أو مرود (للكحل)».
ولم يخدم أبقراط ملكا لزيادة ماله، وفلسفته تقوم على المال الضروري وحسب، فهو خير خادم وشر سيد، وحينما طلبه طاغية الفرس في مرض ألم به مع عرض مالي سخي، رفض قائلا: «لست أبدل الفضيلة بالمال».
وحين عالج ملك مقدونيا انصرف في فترة إقامته يعالج فقراء المنطقة. وقال حينما دنت منيته: «خذوا عني جامع العلم: من كثر نومه ولانت طبيعته ونديت جلدته، طال عمره»، وهي أمور صحيحة في العرف الطبي من راحة البال والغذاء الجيد وعدم التعرض للجفاف.
مات أبقراط ولكنه ترك خلفه ذكرا في العالمين ومدرسة تعتمد التجريب والنظر إلى المريض، وعلى الطبيب أن يبحث عن سبب العلة، ليس في السماء، بل في جسم المريض. ومن الغريب أن (مايكل هاردت)، صاحب كتاب «المائة الأعظم في التاريخ»، لم يضع الرجل بين العظماء، مع أنه مؤسس الطب في العصر القديم، وهو خطأ فادح منه.