أبناء عساكر المغرب عابرو السرير المتخلى عنهم في النمسا
الطريق بين كولن الألمانية وإقليم فورارلبيرغ شرق النمسا متيسر عبر القطار الذي يخترق نهر الراين، لكنه أكثر متعة حين تستقل القطار من زيوريخ السويسرية، فيخترق بك النمسا ليحملك تحت رحمة الطبيعة الخلابة إلى بودابست.
في هذا المكان الساحر، الذي ينعم بالماء والخضرة والوجه الحسن، توقف المغاربة وصنعوا جزءا من تاريخ فورارلبيرغ وفيلدكيرخ على الخصوص، بين الجبال والسهول والبحيرات والأنهار كان لعساكر المغرب في الأربعينات من القرن الماضي وجود.
تعتبر قلعة كاتزينتورم شاهدا على «بلاء» جنود مغاربة حلوا بالقرية وتحصنوا في ثكنة القط الدائرية، التي أصبحت من المعالم التاريخية للمدينة، وقبل أن يفتحوا أعينهم على جيش هتلر العنيد، اكتشفوا أن القرية فيها حسن وجمال فعشقوا طبيعتها ونساءها ووسط دخان الحرب كان للحب مكان.
«الأخبار» تنقل حكاية فيلق مغربي حل في صيف سنة 1945 بمدينة فورارلبيرغ، تحت لواء الجيش الفرنسي، وحين غادر المدينة بعد تسعة أشهر من «القتال» ترك وراءه حوالي 200 جنين، نتيجة علاقات جنسية «غير شرعية» أثمرت أطفالا عاشوا رفقة أمهاتهم محنة الوجود في بلد يعطي للعرق مكانته الخاصة.
المغرب والنمسا.. التاريخ يتمرد على الجغرافيا
وصل المغاربة إلى هذه الربوع منذ القرن الحادي عشر خلال ولاية دولة المرابطين، قبل أن يدخلها العساكر تحت لواء فرنسي، أثناء زمن الحماية الفرنسية، حيث تم تجنيد آلاف المغاربة والجزائريين والتونسيين والسينغاليين والغامبيين ضمن الجيش الفرنسي في حدود 350 ألف مغربي أعلنوا استعدادهم للخدمة العسكرية، أطلق عليهم الألمان لقب «مبتلعو الموت» نظرا لإقبالهم على النار وحرصهم على الصمود في جبهات المعارك، بالرغم من قساوة المناخ. قبل أن تتم دعوتهم للمشاركة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ضمن الفيلق الفرنسي للمشاة المتوجه إلى الشرق الأقصى، الذي شارك في حرب الهند الصينية الأولى، أو ما بات يعرف بحرب «لاندوشين» في الفيتنام مع الجيش الفرنسي والأمريكي من سنة 1946.
حسب الكتابات التاريخية النادرة، فإن «العلاقات المغربية النمساوية تمتد إلى ثلاثة عقود مضت، حينما وقع السلطان سيدي محمد الثالث والإمبراطور هابسبورغ جوزيف الثاني سنة 783 ميلادية، أول اتفاقية بين البلدين، أعقبها إرسال أول بعثة دبلوماسية مغربية إلى فيينا». كما أن هذه العلاقات ظلت تستمد قوتها من التاريخ المشترك والتضامن الإنساني الذي جسده حضور الجنود المغاربة في مواجهة النازية، ثم زيارة الملك الراحل محمد الخامس إلى مدينة بريجنس، حيث قام باستعراض الكتيبة العسكرية المغربية التي شاركت في تحرير النمسا.
وكان الباحث المغربي الراحل عبد الهادي التازي قد كشف في كتاباته عن عمق العلاقات المغربية النمساوية، وعن «المساعي الحميدة التي قام بها ملك المغرب، محمد الثالث، من أجل تطويق الخلاف بين تركيا والنمسا وجعل حد لحالة التوتر بين البلدين. وهو ما يعني أن المغرب كان يحرص على السلام بين الدول ويسعى إلى الوساطة بين الأمم». كما أن العاهل المغربي، يقول المؤرخ المغربي عبد الهادي التازي، عندما شعر بالحاجة إلى تجديد الجيش المغربي، توجه إلى النمسا لكي تزوده بالقوانين الحربية التي تتوفر عليها. فيما كان الأدب النمساوي ذاته يتغنى منذ العصور الوسطى بالحرير المغربي، الذي كان يصل إلى النمسا عن طريق الهدايا المغربية التي كان سفراء ا لمغرب يحملونها إلى الإمبراطور.
الحرب في جبهات القتال حكم الشرع
في مذكرات المقيم العام الفرنسي، ليوطي، نتعرف على تهافت المغاربة على ارتداء البذلة العسكرية الفرنسية، حيث قال إنه مباشرة بعد إعلان فرنسا الحرب على ألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية، «أقدم السلطان على مطالبة المغاربة عبر المساجد بالانخراط في الجيش الفرنسي، وخوض الحرب إلى جانب فرنسا في مواجهتها لألمانيا». وبهذا أضفى قرار السلطان وعلماء السلطان شرعية على عملية استقطاب وتجنيد فرنسا للمغاربة في حرب لم تكن تعنيهم إطلاقا، بل إن المولى يوسف شجع على الانخراط في الجيش الفرنسي واعتبره واجبا تجاه سلطة الحماية، وفسحة للخروج بغية الانفلات من الأوبئة والمجاعات التي ضربت البلاد في منتصف الأربعينات.
أما الباحث المغربي، محمد ال بكراوي، فكشف في كتابه «المغاربة في الحرب العالمية الأولى»، عن طرق ضم المغاربة الشباب إلى الكتائب العسكرية الفرنسية المقاتلة، حيث يؤكد الكتاب انتماءهم إلى المناطق السهلية وسط البلاد التي استطاعت فرنسا السيطرة عليها مثل زيان ومكناس ودكالة وعبدة. وينقل البكراوي عن ليوطي في الكتاب المذكور أن المغرب «قدم 45 ألف جندي، وكان الجنرال، ديت، هو القائد الأعلى لكل الجنود المغاربة في بداية الحرب العالمية الأولى وأساسا الفيالق القناصة المشاة، ولاحقا تمت إضافة فيالق القناصة الخيالة، تحت إمرة القيادة العليا للجيش الفرنسي». كما أسهب في تحديد معايير انتقاء العساكر مع تغليب الجانب الصحي.
حسب المؤرخ الفرنسي، جلبير مينير، فإن مساهمة المغاربة في مقاومة الزحف الألماني، كانت مميزة، ولكنها ليست وليدة واقعة المتعة النمساوية، بل تعود إلى الحرب العالمية الأولى، وتحديدا في شهر شتنبر 1914 خلال أم المعارك التي تسمى «معارك لمارن»، وخاصة معركة أورسك. وكان الجيش الفرنسي يدفع بجنود المستعمرات في الواجهة، ومنهم المغاربة. وأشار الماريشال ألفونس جوان الذي عمل في المغرب والتحق على رأس المجندين المغاربة بفرنسا سنة 1914 للمشاركة في الحرب، إلى أن «أكثر من ثلاثة آلاف مغربي لقوا حتفهم فقط في معركة أورسك». بينما يقدم الكراوي رقما آخر اعتمادا على وثائق فرنسية هو مقتل 12 ألف مغربي في هذه الحرب، أي بنسبة 26 في المائة من مجموع الجنود المغاربة. وعمدت فرنسا لاحقا إلى نقل معظم الجنود المغاربة إلى مستعمرات أخرى لمحاربة حركات المقاومة.
أطفال المتعة المسروقة من المعارك
اضطرت كثير من نساء المنطقة الحوامل إلى الهجرة خارج القرية للولادة، كي لا يكتشف الأهالي بطونهن المنتفخة، «كارل باسنتالر» واحد من أبناء الخطيئة الذي قضى فترة من حياته في ملجأ خيري بفرنسا، عاش ما يشبه العزلة طيلة حياته رغم أن عمره الآن يقارب السبعين عاما، ملامح الرجل تجعلك تصر على انتمائه إلى قبائل زيان، فهو من أب أمازيغي وأم «فرارلبرغية»، منع من مخالطة الأطفال الذين يملكون «عرقا صافيا» فتحول إلى رجل انطوائي. لكن معاناة الأمهات وأغلبهن التحقن بالرفيق الأعلى يحملن أسرار غلطة العمر، كن الأكثر عرضة للسخرية، بعد أن أطلق عليهم قسيس القرية لقب «عاهرات الزنوج»، وقال ساخرا: «كتيبة المغاربة لم تتوغل فقط صوب القرية، بل توغلت في أسرة نساء فورارلبيرغ».
حرر الجيش الفرنسي المدعم بآلاف المغاربة النمسا من قبضة النازية وتركوا نساء القرية أسيرات عابري سرير، بل إن الكتابات التاريخية تؤكد انتباه المسؤولين الفرنسيين للعلاقات الجنسية الجانبية بين الجنود المغاربة و«الفرار لبريغيات» ولفتوا النظر كتابا عن وجود اتصالات بين نساء الأهالي وجنود الاحتلال، خاصة المغاربة، وحسب سجلات الولادة، فإنه بعد مغادرة الفيلق المغربي القرية، ابتداء من شهر شتنبر سنة 1945 بدأت البطون تنتفخ وخرج إلى الوجود في يناير 1946 حوالي 54 طفلا، وانطلاقا من شهري فبراير ومارس بدأت الولادات تتزايد، فيما غادر الآباء المنطقة إلى غير رجعة، باستثناء جندي واحد أصر على العودة للبحث عن عشيقته والاقتران بها.
حرب وحب وأشياء أخرى
في منتصف شهر أبريل من سنة 1945 عبر الفيلق المغربي الرابع نهر الراين ودخل التراب الألماني، كانت المهمة محددة في تمشيط الغابة السوداء، وبلوغ الحدود الشمالية مع سويسرا بأقصى سرعة ممكنة. نزل الفيلق المكون من 4000 جندي على متن 170 عربة في بحيرة قريبة من قرية فورارلبيرغ في الثاني من شهر ماي، ليخرج في مواجهة 22 ألف عسكري ألماني، في معارك تحت قيادة الجنرال الفرنسي، لوشي، قبل أن يتم استبداله بنظيره بوندي، ما زالت آثارها راسخة في ذاكرة النمساويين، ودامت إلى منتصف شهر يناير من سنة 1946. كما تم استبدال الفيلق الثاني المغربي في شهر غشت بفيلق جزائري.
كان صيف 1945 صيف العساكر المغاربة بامتياز، في جبهة الحرب وعلى أسرة نساء القرية، فبالرغم من المقام القصير فإن شهية المغاربة وغرائزهم انتعشت وتم غزو ليلي وهتك لأعراض شابات نمساويات تقاسمن مع المغاربة متعة النبيذ والجنس على «نغمات» القصف المدفعي الذي لم يتوقف.
بعد مرور تسعة أشهر خرج إلى الوجود أطفال من صلب الجنود المغاربة الذين مروا من هذه القرية، وأصبح المكان مليئا بكائنات جديدة مختلفين من حيث اللون والشكل عن أصحاب الأرض، فتولدت معضلة أطفال متخلى عنهم، عانوا بعد الحرب من السخرية ومن الإذلال نتيجة زواج مختلط ساهم في تفكك العديد من الأسر..
للتاريخ فإن النمساويات ضاجعن الضباط الفرنسيين أيضا، لكن الولادات الناتجة عن فراش أوربي لم تلفت الأنظار لتقارب الأجناس، بينما أطفال المعاشرة المغربية النمساوية مختلفون من حيث الملامح ومثيرون أحيانا للاستفزاز والتقزز.
الفرق بين أطفال الحروب الذي ولدوا من صلب فرنسي ونظرائهم الناتجين عن معاشرة مغربية، هو أن الفئة الأولى لا تلفت الانتباه لأن الجنس الأوربي متقارب، بينما هناك اختلاف في لون بشرة وشعر وملامح الكائنات الجديدة، سيما إذا استحضرنا السياق التاريخي للواقعة وزمن كان الفكر النازي يعتبر الجنس الألماني والنمساوي طبعا الجنس الأكثر نقاوة في الوجود، ناهيك عن الإكراهات الكنسية، مما جعل الأهالي يلقبون أطفال الحرب من صلب مغربي بطيور الموت، وزنوج الرذيلة، أو أبناء لا أحد. هذا الجيل الذي يعاني من جرم لم يقترفوه عاشوا أقسى أنواع العنصرية، مما دفع الكثير منهم إلى نبذ المغرب والعرب والمسلمين عامة، والبعض الآخر هاجر هروبا من نظرات الآخرين، بينما ظلت قلة تبحث عن جذورها في المغرب.
الكلمة للحمض النووي
أقامت السلطات مصحة عسكرية للولادة تجندت في خدمتها ممرضات مولدات قرب مدينة «بريغينتز» (عاصمة المقاطعة)، التحقت المعنيات بها أملا في ولادة سرية، بعد عام عن وصول الفيلق إلى المغرب كانت القرية تعج بأبناء بملامح مختلفة، مما لفت الأنظار إلى الظاهرة. لكن الحقوقيين النمساويين لا يرون في القضية فضيحة، ويؤكدون أن الحمض النووي كشف فعلا عن وجود أطفال حرب من صلب عربي، ويرون أن الحمض قام بتحليل البصمة الوراثية لأدولف هتلر، «ودلت نتيجة الفحوصات بأن الجزع الأساسي الجيني المنتشر في شجرة البصمات الوراثية للمغاربة بشكل خاص». وهو ما نشرته صحيفة «كنك» الأسبوعية البلجيكية الصادرة باللغة الهولندية في 23 غشت 2010، استنادا إلى مؤرخ اسمه مارك فيرميرن، «سعى إلى الحصول على عينة من الحمض النووي لأحد أقرباء أدولف هتلر من الجيل الثالث، وهو ألكسندر ستوات هوستون، القريب من بعيد لمؤسس الحزب النازي، كان يعيش قيد حياته في لونغ آيلاند بنيويورك، رآه في أحد الأيام يسعل مستعينا بورقة كلينيكس رماها في ما بعد بسلة صغيرة للقمامة في شارع بنيويورك، فأسرع والتقطها، لأن فيها كان جزءاً من لعابه الذي استخرجوا منه عينة من حمضه النووي». تبين أن قريب هتلر يحمل نوعا من الكروموزومات نادرة الوجود في البصمات الوراثية للألمان بشكل خاص، كما أن وجودها قليل أيضا في أوربا الغربية.
وقالت الصحيفة إن هتلر لا بد أن يكون منحدرا من «جد قديم مشترك بينه وبين بربر المغرب أو الجزائر أو تونس وليبيا في الشمال الإفريقي، وربما كان الجد يهوديا من الشمال الإفريقي أيضا، لكنه ليس أوربيا من الناحية الجينية بالتأكيد».
وذهبت روايات أخرى، في حاجة إلى التأكيد العلمي، إلى اكتشاف آخر يقول إن «ابن عم أدولف هتلر كان موسى بن ميمون، وهو طبيب وفيلسوف يهودي عاش في المغرب وفي مصر قبل 800 سنة». وهي الرواية التي شجعت الكاتب الألماني هينيكه كاردل، على تأليف كتاب مترجم إلى العربية تحت عنوان: «هتلر مؤسس إسرائيل»، وفيه قال إن جدة هتلر النازي كانت يهودية.
محمد وعشيقته ويلما ضحايا حب تحت النيران
عاش المجند المغربي محمد بن بوشعيب حياة ليالي الأنس في دولة عاصمتها فيينا، تمخض عن العلاقة مع فتاة في مثل سنه تدعى، ويلما، ابنة مزارعة نمساوية، مولودة أطلقت عليها والدتها اسم ماريا، تميل كثيرا إلى السمرة، مما جعلها محل استفزاز من الأهالي، الذين أطلقوا عليها اسم «الدمية السوداء». هربت الأم رفقة «دميتها» إلى أعالي جبال الألب وحرصت على تربيتها بعيدا عن أعين الاحتقار والازدراء، هناك التقت بسيدة أخرى ولدت من مغربي طفلا أسمته، كارن، اقتسما نفس المأساة التاريخية، قبل أن يلتحق بهم أطفال «طابو» الحرب ويعيشون بعيدا عن الأنظار.
لكن الرواية الأكثر إثارة في ملف أطفال الحرب، هو اتهام نساء القرية بالخيانة العظمى والمطالبة بمحاكمتهن وطردهن وعدم الاعتراف بأبنائهن، رغم ذلك أصر الأطفال على تعقب خيط يؤدي إلى أصولهم وإلى هويتهم حتى ولو كان مجرد خيط دخان، وحظوظ العثور على الأب البيولوجي حيا ضئيلة جدا. قبل عامين قامت، كليمون موتمبو، بكتابة رواية حول أطفال الخطيئة في قرية فورارلبيرغ، تحت عنوان «الملعونون الأبرياء» تتضمن عدة شهادات صادمة حول الواقعة السوداء في تاريخ القرية «السعيدة» ومعاناة الأمهات والأطفال على حد سواء من «لعنة» رافقتهم في حياتهم.
وكشفت صحيفة «داتوم» النمساوية عن الواقعة الأكثر إيلاما لساكنة فورارلبيرغ، عبر حميد لشهب، الكاتب المغربي والباحث في علم النفس البيداغوجي، والذي يقيم في مدينة فيلدكرخ النمساوية بعد أن شغل فيها مهمة مستشار في مجلسها البلدي، في بحث حول «أبناء الخزي والعار».
يقول الباحث المغربي في حكي أشبه بالزفرات المنبعثة من الأعماق: «يتذكر «جورج فريتز» أيام طفولته، لا تخطر على ذاكرته أوقات سعيدة إلا القليل النادر. كان الفتى يقضي جل الوقت في الغابة وحيدا مع الطبيعة. الأطفال الآخرون كانوا لا يريدون أن يختلط بهم. يحكي فريتز: «عندما كنت أصادف الأطفال الآخرين وأنا في طريقي إلى المدرسة، كانوا يبدؤون بمطاردتي على التوّ. لكنني كنت يقظا وخفيف الحركة، فكنت أضرب أولهم ضربا مبرحا، ثم أتسلق شجرة ومن فوقها أنهال على الآخرين، في أحد أيام الشتاء أمسك به أطفال الجيران ورموه مع أدواته المدرسية في نهر بارد كالجليد».
يؤكد الباحث، لشهب، أن مدينة إنسبورك النمساوية قد منحت الفرصة لحزب يميني متطرف ليجعل من قضية إنسانية محل جدل سياسي وانتخابي كاد يتسبب في أزمة دبلوماسية بين المغرب والنمسا، وأن مدينة فيلدكرخ، وعلى عكس جارتها إنسبورك، تحتفظ للجالية المغربية بذكريات جميلة، منذ مرور جنود مغاربة بها إبان نهاية الحرب العالمية الثانية، وتخلد أسماءهم في شوارعها وجبالها ومحطة قطارها.
رحلة إلى المغرب بحثا عن الأصول
قبل أربع سنوات خلت نظم أبناء الحرب رحلة إلى المغرب بحثا عن الجذور، أغلبهم من أبناء مغاربة الفيلق الرابع الذي رابط في روابي وأسرة القرية النمساوية المكلومة، وجمعوا في تسعة أشهر بين عنف المعركة ودفء السرير، دفاعا عن فرنسا وعن النمسا ضد الزحف النازي في الحرب العالمية الثانية. شارك في الرحلة التاريخية الأولى من نوعها في تاريخ العراك الفرنسي الألماني، الباحث المغربي الأصل الدكتور حميد لشهب، وهي الرحلة التي تم دعمها من طرف وزارة التضامن الاجتماعي النمساوية، بعد أن وجدت في الملف فرصة لإنصاف هذه الفئة ومصالحتها مع تاريخ بلادها بعد سنوات من القهر والعذاب.
قامت المندوبية الجهوية للوزارة على مستوى مقاطعة فواررلبيرغ بتنسيق مع حزب الخضر السياسي، وجمعية مغاربة الدول الناطقة باللغة الألمانية، بتنظيم الرحلة التاريخية والتي جاءت بعد جهود مضنية من الباحث المغربي، حميد لشهب، الذي اهتم أكثر من غيره بضحايا معاشرة عابرة في لحظة حرب تبيح المحظور، من خلال كتابه «والدي مغربي»، الذي خصص الجزء الأكبر منه للحديث عن المأساة الإنسانية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية في هذه الربوع الجميلة من أوربا.
شارك في الرحلة إلى المغرب أبناء وأحفاد الجنود المغاربة، كان همهم الوحيد ربط الصلة مع الجذور والتعرف على الآباء والأجداد، وإعادة كتابة تاريخ آخر بمداد المصالحة مع الماضي. لكن مؤشرات البحث معقدة جدا إذ كان من الصعب العثور على آباء أغلبهم مات ولقي ربه، أو افتقد في حرب «لاندوشين»، والباقون الذين هم على قيد الحياة نسوا الواقعة بسبب حصولهم على أسماء عائلية نابت عن الاسم الحركي الذي خاضوا به الحرب، فمحمد بن بوشعيب، زوج إيلما مثلا أصبح له اسم ولقب، كما أن الزهايمر ضرب العديد من المجندين الذين نسوا الحكاية.
خصص استقبال كبير للمشاركين في الرحلة من طرف جيرار دايس، سفير النمسا في المغرب آنذاك، ونظم على شرفهم حفل عشاء ساهر بمقر إقامة السفير، بحضور اللجنة المغربية المكلفة بتاريخ الجيش المغربي وعلى رأسها الكولونيل عزيز يزماني، وفي الدار البيضاء نظم لقاء بين ضحايا سنوات «البارود والجنس»، مع بيرنارد باكيي، المفوض الثقافي للسفارة الفرنسية المسؤول عن الأرشيف الخاص بقدماء المحاربين، الذي مكن الزائرين من التعرف على الأرشيف الفرنسي وسط سعادة لا تضاهى للباحثين عن تاريخ مقبر.
وخصصت مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين في الخارج، حيزا من اهتماماتها لهذه المجموعة التي كانت في مهمة استثنائية غير مسبوقة على مدى التاريخ، وعلى هامش الزيارة خصص جزء من المتعة السياحية للنمساويين الذين استغلوا الفرصة لزيارة مجموعة من المواقع الأثرية وتغيير نظرتهم عن المغرب.
زروال الجندي الذي قرر الاعتراف بفلذة كبده
يشكل الجندي المغربي الأشقر، امحند زروال، المتحدر من عين مديونة ضواحي تاونات، الاستثناء في هذا الملف، فهو الوحيد الذي لم يقطع حبل الود مع عشيقته سكيند، وأصبحت تحمل في ما بعد لقب سكينة، حيث قرر بعد العودة من معارك الهند الصينية التوجه إلى فرنسا، وفي مدينة ليون التقى العاشقان بعد طول غياب، وقررا الاقتران الشرعي بعد أن اعتنقت الزوجة المسكينة الديانة الإسلامية، وقلبت صفحة الماضي وراحت تبحث عن حياة جديدة تطوي بها الماضي الحزين.
يقول عمر زروال، ابن عم الجندي الذي ووري الثرى في الديار الفرنسية ودفن في مدينة ليل، إن قريبه قدم صورة مشرفة عن المغاربة وأكد للنمساويين أنه لولا الضوابط العسكرية التي حتمت على الجنود مغادرة النمسا والتوجه صوب الفيتنام، لأصر عدد منهم على البقاء في قرية فورارلبيرغ، لكن «ما باليد حيلة» قبل أن يضيف: «امحند فلاح وابن فلاح، لذا قرر بعد مغادرة الجندية العودة إلى أصوله، لكن في فرنسا هناك بنى عشه السري من جديد وتردد على المغرب بعد الحصول على الاستقلال، لأنه كان يخشى خلال فترة الحماية من الأسر والإدانة بتهمة الهروب من الجندية، وعلى طول مقامه في ليون كان امحند عاشقا لأغاني أم كلثوم ولأفلام الحرب العالمية».
هناك نمساويون آخرون خاضوا بحثا مريرا قبل أن يتمكنوا من التعرف على أصولهم، خاصة جورج فريتز الذي استعان بمخرج الأفلام النمساوي، توماس مرتزيك، ونجح في اكتشاف أصوله والتعرف على عائلة أبيه بشمال المغرب في قرية بنواحي تاونات، غير بعيد عن قرية با محمد.
مغربي يتعقب ملف القضية سياسيا
بفضل نضاله من أجل هذه القضية، تمكن الباحث المغربي في سيكولوجيا التربية، حميد لشهب، من تجديد انتخابه في الانتخابات البلدية لمدينة فيلدكرخ النمساوية التي نظمت في منتصف 15 مارس الماضي، للمرة الثالثة على التوالي عضوا للمجلس البلدي لهذه المدينة. وينتمي لشهب إلى حزب الخضر النمساوي المعارض، الذي نظم رحلة أبناء الحرب إلى المغرب.
فضل لشهب عضوية في لجنة إدماج المهاجرين وركز على القضية التي شغلت بال ساكنة وأهالي المنطقة، بموازاة مع أنشطته كفاعل جمعوي، وهو أول باحث عربي حصل على الجائزة العالمية لإيريك فروم عام 2004. راح عساكر الفيلق الرابع المغاربة وظل مغربي آخر يمسح الصورة المخدوشة عن الجيش الذي نفخ في بطون نساء القرية، على حد تعبير كتاب نمساويين، ناب الرجل عن هؤلاء الجنود الذين خلفوا ذرية بعد ارتباطهم بنمساويات أثناء الحرب، قبل أن يُرَحَّلُوا إلى جنوب فرنسا للعودة إلى المغرب، أو إتمام رحلتهم نحو الهند-الصينية.
ظل ابن قرية مطماطة بين فاس وتازة حريصا على الدفاع عن ملف الجنود المغاربة، وقضى جزءا كبيرا من حياته في مناصرة القضية ومنحها البعد الإنساني الذي تستحقه، بالرغم من الحياد السلبي للمندوبية السامية لقدماء المحاربين وأعضاء جيش التحرير.
ليالي الأنس في فيينا
كانت المطربة أسمهان محقة وهي تشدو بكلمات رائعتها «ليالي الأنس في فيينا» التي قالت إن «ليالي الأنس في فيينا نسيمها من هوا الجنة نغم في الجو له رنة سمعها الطير بكى وغنى»، في إشارة إلى جمالية المكان وروعته. لكن النمسا التي حل بها الجنود المغاربة وغصبا عنهم، وقبلهم حلت بعثة دراسية لم تكن مركز جذب للمغاربة على غرار فرنسا أو إيطاليا وإسبانيا وبلجيكا وهولندا، ثم ألمانيا. لكن هذا لم يمنع من اقتران مغاربة بنمساويات بعيدا عن دخان الحروب، فالحب قائم في الحرب والسلم. عبدو الأنطاكي، مغربي من العاصمة الرباط، تزوج من نمساوية بعد سنتين من زيارته إلى فيينا بحثا عن لقمة عيش، وحين علم بأن زوجته حامل طالبها بإسقاط الجنين فرفضت، ليقرر العودة إلى المغرب وبعد عملية بحث اكتشفت أن عبدو متزوج من مغربية وله ثلاثة أبناء وأنه بصدد إعداد مذكرة التجمع العائلي، لذا كشفت دراسة حول الزواج المختلط بين العرب والنمساويات عن رفض 60 في المائة من النمساويين تزويج بناتهم من العرب، علما أن القرار يكون غالبا في يد الفتاة.
لا تنطبق هذه الحالة على عبد الحميد لحمامي، الذي ساهم في تأسيس جمعية «اتحاد الصداقة للمغاربة بالنمسا» سنة 2011، قبل أن يشارك بعد عامين من ذلك في ولادة جمعية أخرى لتطوير الشراكة بين المغرب والنمسا.